حملت الأسابيع الماضية اخباراً سيئة الى إدارة الرئيس جورج بوش من إعصار كاترينا وتبعاته السياسية والأجتماعية وأثرها على السياسة الخارجية وأجندة أميركا حول العالم. ةأشارت إستطلاعات الرأي الأخيرة، عشية الذكرى الرابعة لاعتداءات 11 سبتمبر 2001، الى انخفاض الرضا على أداء بوش وهبوط شعبيته الى أدنى مستوى لها منذ وصوله الى البيت الأبيض قبل اكثر من 5 أعوام. واللافت في هذه الاستطلاعات مطالبة غالبية المستطلعة آراؤهم باهتمام أكبر بالشأن الأميركي وتقديمه على القضايا الخارجية وأنخفاض الثقة بقيادة الرئيس بوش وازدياد الإنتقادات لإداراته في التعاطي مع القضايا الداخلية مثل إعصار كاترينا، والخارجية مثل العراق، وسط تململ شعبي كبير من الإلتزامات والمغامرات الخارجية، وإستعداد الديموقراطيين للإستفادة من معاناة بوش وحزبه وسط الاستعداد للانتخابات النصفية بعد عام. وسيكون من المثير والمفيد أن نعرف كيف يقرأ خصوم أميركا المزاج الشعبي والسياسي الأميركي الغاضب وكيف سينعكس ذلك على مواقفهم وتصلبهم حيال القضايا العالقة مع واشنطن، سواء كانوا ملالي إيران أو كيم ايل جونغ في كوريا الشمالية او المقاومة في العراق. من الواضح أن إيران حسمت أمرها بلا رجعة. اذ أعلن وزير الخارجية الإيراني الجديد منوشهر متقي ان بلاده لن تعود الى التعليق التام لنشاطاتها المتعلقة بانتاج الوقود النووي، وان رفع الملف النووي الايراني الى مجلس الامن الدولي كما تهدد واشنطن ودول الترويكا الأوروبية، ستكون له"عواقبه". كما انه"لا يمكن العودة الى تعليق جديد في اصفهان". والموقف الايراني يؤكد بأنه"لا يوجد اساس قانوني لرفع الملف الى مجلس الامن. وستكون هذه خطوة سياسية. وعلى ما يبدو فإن إيران تعول على انقسام في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تجتمع في فيينا في 19 ايلول سبتمبر 2005، لتحصل على رفض لرفع الملف النووي الايراني الى مجلس الامن. وتستقوي أيران بكل من روسيا والهند والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. فيما تسعى أميركا مع حلفائها الأوروبيين كما تقول"نيويورك تايمز"في 10/9 /2005 لإحالة ملف إيران النووي وبخطوة غير مسبوقة الى مجلس الأمن بأصوات غالبية الأعضاء ال35 في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدلاً من الاجماع كما درجت العادة عليه. وكما حصل مع إحالة ملف كوريا الشمالية النووي. اذاً، فمن إستمرار تدهور الأوضاع في العراق الى تعثر وتوقف المفاوضات حول الملف النووي الكوري الشمالي واللجنة السداسية التي اوقفت اجتماعاتها في الصين، الى التشدد الايراني الملحوظ لاستئناف برنامج تحويل اليورانيوم الى غاز، ثم بكسر اختام الشمع الاحمر عن مفاعل اصفهان ورفض قرار حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الطلب من ايران وقف نشاطاتها النووية واعطاء محمد البرادعي المدير العام للوكالة مهلة حتى ال19 من سبتمبر الجاري الذي حدد للتصويت على النشاطات النووية الايرانية... نلاحظ ملامح لعبة القط والفأر بين العراق ومجلس الامن، لكن ايران ليست العراق، والاوضاع الدولية والاميركية الداخلية في 2005 ليست كأوضاع 2003، خصوصاً مع تمدد اقليمي وشرق اوسطي لإيران... الى اين سيفضي ذلك في المواجهة بين الموقف الاوروبي الاميركي المهدد والموحد، والموقف الايراني المتحدي، مع مجيء محمود أحمدي نجاد ورفضه ترهيب ايران؟! ومع الالتفاف القومي الايراني من جميع الاطياف المحافظة والليبرالية المؤيدة حول حيازة ايران للقدرات النووية واستقواء ايران بما تملكه من اوراق القوة التي بحوزتها وهي عديدة؟ امام هذه الوقائع والتطورات المتسارعة، تكتسب المواجهة الايرانية -الغربية اهمية بالغة سواء ببعديها الدولي مع أميركا والغرب من جهة، أو مع دول المنطقة ولا سيما العراق ودول مجلس التعاون الخليجي واسرائيل من جهة أخرى. ويستند استقواء ايران الى التعثر الأميركي في العراق والتباين في المواقف الأميركية - الأوروبية وصعوبة العمل العسكري، والى التفاف شعبي- قومي ايراني مؤيد بفخر واعتزاز امتلاك قدرات نووية، والى صمت عربي مطبق وعجز عن بلورة موقف عربي استراتيجي تجاه ايران... كل ذلك يحفز ايران على انتهاج سياسة حافة الهاوية في تحديها الواضح لسياسة"الستاتيكو"وفي سعيها الى اكتساب الإحترام والتقدير والهيمنة الأقليمية التي لطالما حرمت منها منذ قيام الثورة قبل خمسة وعشرين عاماً. والملفات والأوراق التي تملكها ايران هي: - اولاً: الملف العراقي والدور الايراني المتصاعد خصوصاً في الجنوب والوسط، وسط انزلاق العراق اكثر واكثر تجاه حرب اهلية وتقسيم، ووصول ابراهيم الجعفري وحزب الدعوة الذي يرأسه الى الحكم رغم علاقتة الوثيقة مع ايران التي أمضى فيها 9 سنوات أيام صدام حسين. كذلك مطالبات عبدالعزيز الحكيم بفيديرالية للجنوب والوسط التي تقوّي النفوذ الايراني. وايضاً تحذيرات وتأكيدات رامسفيلد بوجود اسلحة ايرانية مهربة من جانب الحرس الثوري الى المقاتلين العراقيين... كل ذلك يزيد من تعقيدات الدور الايراني في العراق بأبعاده الاستراتيجية والامنية والسياسية ويُعطي ايران اليد الفوقى التي وصفها مرشح الرئاسة الاميركي السابق ارنود بورغريت بأن ايران تفوز في العراق على اميركا بالنقاط. - ثانياً: الحق والشرعية والشفافية، لا شك ان لدى ايران الحق حسب القانون الدولي واتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية في تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية وهي الموقعة على الاتفاقية، في حين ان اسرائيل وباكستان والهند دول غير موقعة، وتقوم اميركا بمكافأة تلك الدول وتغض الطرف عن نشاطاتها النووية. وكان لافتاً ان تجرب باكستان اخيراً صاروخاً لديه القدرة على حمل رأس نووي من دون أي انتقادات من الغرب، كما ان ايران بعد فضح برنامجها النووي السري قبل ثلاثة اعوام، تعتمد مبدأ الشفافية في التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية مما يجعل الوكالة في موقف صعب في انتقاد او احالة ايران لمجلس الأمن كما تطالب أميركا والترويكا الأوروبية. كما ان ايران تؤكد على الدوام بأن برنامجها النووي هو لأغراض سلمية وليس لأهداف عسكرية. خصوصاً ان ايران لم تخرق أي من القوانين الدولية او أتفاقية NPT لحد من الأسلحة النووية. وتعاونت خلال السنوات الماضية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والترويكا الاوروبية، وما يزيد تعقيد المشهد وجود انقسام بين الدول الأعضاء في الوكالة والدول الأعضاء في مجلس الأمن. لذلك لا تبدي ايران قلقاً من احالة ملفها النووي لمجلس الأمن. - ثالثاً: تستقوي ايران ايضاً، بالموقف الصيني حيث وقعت قبل اشهر قليلة مع الصين المارد الاقتصادي اتفاقية نفط وغاز وطاقة بقيمة 70 بليون دولار لسنوات عديدة، واستفادة شركات صينية من عقود نفطية وغيرها، أبرزها بناء خط مترو الأنفاق في طهران. كما ان الموقف الروسي الذي يبني المفاعل النووي والذي يطالب ايران بالعودة للتفاوض ووقف الانشطة النووية قد يستخدم الفيتو في مجلس الامن. مما يقوي الموقف الايراني. فحتى لو احيل الملف النووي الايراني لمجلس الأمن فهذا لا يعني حتمية فرض عقوبات عليها. - رابعاً: الاقتصاد العالمي ومعاناته من فرض عقوبات مؤذية لإيران وللغرب معاً، لن يقبل بسهولة فرض العقوبات ومعاقبة الشركات الاوروبية والاجنبية اكراماً لاميركا واسرائيل، خصوصاً ان اسعار النفط تخرق كل يوم سقف الارقام القياسية مع وصولها الى 70 دولارا.. - خامساً: ابقاء الباب مفتوحاً نحو التفاوض مع الاوروبيين عبر الترويكا الاوروبية والوكالة الدولية للطاقة وايران عبر تصريحات ايجابية لمحمود نجاد ومحمد البرادعي وبوش والترويكا بعدم احالة الملف النووي الايراني الى مجلس الامن يترك الباب موارباً نحو تفاوض جاد وبدون شروط كما تطالب ايران، خصوصاً في الأممالمتحدة التي سيزورها الرئيس نجاد في ايلول المقبل، وهو الذي يطالب بجعل العالم قاطبة خالياً من اسلحة الدمار الشامل. - سادساً: صعوبة العمل العسكري بل استحالته وابعاده المدمرة وغير المضمونة والرد الانتقامي الايراني والغضب الاسلامي على اميركا واسرائيل معاً، خصوصاً ان اميركا حسب تسريبات عسكرية كانت اجرت تجارب ولم تكن نتائجها مشجعة. كما أن دراسات البنتاغون الأخيرة حول خوض حربين في آن واحد غير مطمئنة، فيما تدور اميركا فعلاً في رحى حربين احداهما مهلكة وبدون خط نهاية في العراق واخرى غير منتهية في أفغانستان، وآخر شيء تريده هو فتح جبهة ستالينغراد المدمرة في ايران. مثل هذه الحرب على ايران لا يحظى بتأييد الرأي العام الأميركي وسط تراجع التأييد للحرب في العراق، ولا بتأييد حلفاء واشنطن الأوروبيين، وآخر هؤلاء المستشار الألماني شرودر الذي تحدث عن استحالة العمل العسكري وعدم مشاركة المانيا فيها. - سابعاً: تباين في الموقف الأميركي. ففي حين يصر فريق المحافظين الجدد مهندسي الحرب على العراق على "تغيير النظام الايراني"، تتمسك ادارة الرئيس بوش عبر الترويكا الأوروبية بريطانيافرنساوالمانيا بالمضي في التفاوض مع ايران وتقديم الكثير من الحوافز و"الجَزَر"والقليل من"العصي"والتهديد. وكان ذلك واضحاً من خلال الصفقة النووية الاقتصادية التجارية التي قدمتها الترويكا بمباركة وتأييد أميركيين. فيما يدعو طرف أميركي ثالث ممثل ببراغماتيين من أمثال ريتشارد هاس وبريزينسكي وروبرت غيتس الى التفاوض المباشر وفتح الحوار مع ايران والابتعاد عن التصعيد. هذا التباين تقرأه ايران بارتياح وتقدير. كما أنه يربك القرار الاميركي المتردد، وسط تملل الرأي العام من الكذب عليه في تبرير حرب العراق ووسط تصاعد الأكلاف البشرية والعسكرية والمادية لحرب بلا أفق أو خط نهاية واضح في المستنقع العراقي. وسط هذه المعطيات لا يمكن للرأي العام الأميركي أو حتى الكونغرس أن يؤيد عملية عسكرية ضد المنشآت النووية الايرانية. لذلك لا تبدي ايران قلقاً كبيراً من تحذيرات بوش الواقعية من ضربة عسكرية لا تدعمها الوقائع على أرض الواقع، خصوصاً مع التحضيرات لانتخابات الكونغرس خلال الأشهر المقبلة. - ثامناً: ما يزيد صورة المشهد الايراني ضبابية واستبعاداً لعملية عسكرية هو تسريب متعمد مطلع شهر آب أغسطس الماضي "واشنطن بوست" لتقرير استخباراتي اميركي يؤكد أن ايران لن يكون بمقدورها حيازة السلاح النووي قبل عشرة أعوام، مناقضاً بذلك التوقعات السابقة أميركياً واسرائيلياً. وهذا يلغي باعتراف أميركي وجود خطر ايراني آني أو مباشر. فلماذا السعي اذاً الى عمل العسكري غير مبرر. هذا ما تقرأه ايران وتستقوي به مضافاً الى الأوراق الأخرى. - تاسعاً: لدى ايران القدرة على احباط المشروع الأميركي واعاقته في الشرق الأوسط الكبير وعلى الانتقام من اسرائيل اذا ما هوجمت اميركياً او اسرئيلياً. وتملك ايران امكانات الرد الانتقامي، من الخليج الى لبنان حزب الله، ومن أفغانستان الى العراق، ومن مضيق هرمز الى الضفة الغربية وقطاع غزة حماس والجهاد الأسلامي. - عاشراً: بناء على المعطيات والأسباب السابقة تبدو ايران مصممة على امتلاك السلاح النووي تحت غطاء الاستخدام السلمي للطاقة وهي بذلك تتبع النموذج الكوري الشمالي للردع و التفوق والهيبة وتبتعد عن النموذجين الليبي والجنوب افريقي. وسط كل هذه التطورات وتصاعد ديبلوماسية حافة الهاوية وتحذيرات اميركا واوروبا يبقى الموقف الخليجي والعربي الغائب الأكبر عن ساحة العراك السياسي والتصريحات على رغم مساعي الكويت للعب دور الوسيط بين إيران والغرب، وتصريحات ضبابية للأمين العام لدول مجلس التعاون الخاليجي بجعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. حتى اليوم لم يرق الموقف الخليجي والعربي الى مستوى الحدث وخطورته، وكأن ما يجري من حولنا يجري في كوكب آخر ولا يعنينا مع اننا أكثر المعنين بعودة التوتر الى منطقة الخليج. فالى متى يبقى الصمت المطبق الخليجي والعربي؟ ومتى سنبدأ نسمع مطالب خليجية وعربية بالحصول على الطاقة النووية لأغراض سلمية أيضاً. هل ندشن لحقبة جديدة من سباق تسلح في منطقتنا؟! أم علينا الانتظار الى أن نستقوي بالأوراق التي لا نملك منها شيئاً بعد. استاذ العلوم السياسة - جامعة الكويت.