بعد فشلها في العراق تواجه الإدارة الأميركية مشكلة لا تقل خطورة على مجمل مصالح الولاياتالمتحدة في اكثر المناطق حيوية وأهمية في العالم وهي منطقة الخليج. هذه المشكلة تتمثل في تنامي القوة الإيرانية على الصعد العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية على نحو يقرب إيران من أن تصبح قوة إقليمية كبرى يصعب على أميركا أو الغرب احتواؤها وهي التي تتمتع بالاستقلال السياسي والاقتصادي والان تسير في طريق امتلاك عناصر التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية. مصدر القلق الذي يسيطر على مسؤولي البيت الأبيض ينطلق من التخوف من نشوء معادلة جديدة في المنطقة تقود إلى انقلاب جذري في المعادلة القائمة والتي تحفظ المصالح الأميركية الغربية منذ عقود طويلة. ان العناصر المكونة للمعادلة الجديدة التي لا تزال في طور التبلور هي: 1 تحول العراق إلى ساحة استنزاف للقوة الأميركية والعجز عن احتواء المقاومة العسكرية والسياسية التي تزداد قوة ما جعل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش غير قادرة على استكمال مشروعها الهجومي في المنطقة من اجل إعادة رسم خريطتها بما يتفق ومنظور الرؤية الأميركية للشرق الأوسط الكبير. ومع أن واشنطن تبحث في سبل الخروج من الوحل العراقي، تحت ضغط المعارضة الداخلية وتراجع شعبية بوش وحزبه الجمهوري، إلا أن هناك هاجساً مسيطراً على المحافظين الجدد بشأن الواقع الجديد الذي قد ينشأ من جراء سحب القوات الأميركية من دون أن تتمكن من ضمان وجود حكم قوي موال لواشنطن، حيث يسود القلق من احتمال أن يؤدي خروج القوات الأميركية إلى سقوط سريع للسلطة العراقية الوليدة في كنف الاحتلال وولادة نظام وطني في العراق خارج نطاق التبعية للغرب، ما يعني تحرير ثروته النفطية التي تشكل احدى أهم استهدافات الاحتلال الأميركي. 2 ظهور إيران كقوة إقليمية إلى جانب تحرر العراق سوف يقود إلى نشوء حلف إيراني عراقي سوري يشكل قوة كبيرة ما يؤدي إلى اطلاق مد تحرري في عموم المنطقة يحفز الحركات التحررية على التحرك مما يهدد الوجود الأميركي الغربي بالزوال. 3 إن ظهور مثل هذه المعادلة في المنطقة يؤدي بالضرورة إلى رفد نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته بدعم كبير لم يسبق له مثيل ويجعل إسرائيل، القاعدة الاستراتيجية للغرب في قلب المنطقة، في خطر كبير لم يسبق أن واجهت مثيلاً له منذ نشأتها خصوصاً أن المقاومة الفلسطينية قد قوي عودها وتمكنت من دفع إسرائيل إلى التراجع والانكفاء عن اجزاء من ارض فلسطين لأول مرة في تاريخ الصراع. إن القلق الأميركي من احتمالات نشوء هذه المعادلة وانعكاسات ذلك على مجمل مصالح الولاياتالمتحدة في منطقة هي الأكثر أهمية وحيوية في العالم، هو ما يجعل الإدارة الأميركية في وضع متأرجح امام الخيارات المطروحة أمامها في مواجهة القوة الإيرانية المتنامية، ذلك أن أي انسحاب اميركي من العراق مع وجود هذه القوة الإيرانية المتحالفة مع سورية يعني ليس فقط سقوط المشروع الأميركي الشرق الأوسطي، بل أيضا انهيار حلم المحافظين الجدد في جعل القرن الحادي والعشرين قرن الأمبراطورية الأميركية المسيطرة على الكرة الأرضية. من هنا يبدو ان المشكلة مع القوة الإيرانية مصيرية بالنسبة الى المشروع الأميركي الأمبراطوري، ليس على صعيد المنطقة فحسب، بل على صعيد العالم. من هذا المنطلق فان الحديث عن استخدام القوة ضد إيران لا يجب اعتباره من قبيل التهديد والوعيد فقط بل يجب النظر إليه ايضا انطلاقا من كونه احتمالا جديا لا يستبعد حدوثه إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر التي تهدد المشروع الأميركي حيث يسود منطق داخل الإدارة الأميركية يعتبر أن تراجع أميركا يعني هزيمتها ولذلك يتحدثون عن ضربة تكتيكية. فعلى الرغم من ان أصواتا كثيرة داخل اميركا وخارجها تحذر من عواقب توجيه ضربة عسكرية لإيران، وتعتبر أي هجوم عسكري من هذا النوع سيكون عملا غير عقلاني، ويواجه معارضة قوية من قبل القيادة العسكرية الأميركية، فان المشهد يبدو مشابها لما كان عليه عشية إقدام إدارة الرئيس بوش على غزو العراق. مؤشرات ذلك تظهر من خلال حملات واشنطن ضد إيران والتي تشبه حملاتها عشية غزو العراق. ابرز هذه المؤشرات: وصف الرئيس الأميركي جورج بوش المواجهة مع إيران بأنها اختبار جديد للمنظمة الدولية. إعلان المتحدث باسم الخارجية الأميركية أن إيران تتحدى مصداقية الأممالمتحدة. دعوة واشنطن إلى تشكيل مجموعة من الدول التي تفكر بالطريقة نفسها لكبح تطلعات إيران النووية. إعلان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في 19 نيسان - ابريل الماضي عن استعداد إدارة بوش للتصرف بمفردها إذا لزم الأمر معيدة إلى الاذهان موقف الإدارة قبل الحرب على العراق الذي سبب انقساما بينها وبين حلفائها من الدول الغربية. نقل الكاتب الأميركي سيمور هيرش أن الرئيس بوش، وفي رد منه على اعتراضات الجيش: لن يستبعد استخدام اسلحة نووية تكتيكية لاختراق التحصينات الايرانية تحت الأرض حيث تخزن المعدات النووية. غير أن إيران ليست العراق، وأميركا اليوم ليست هي نفسها قبل غزو العراق، فالظروف مختلفة وهي لا تعمل كلها لصالح إدارة بوش من عدة نواح: 1- عدم وجود ضمانات بإمكانية نجاح الضربة التكتيكية الأميركية في تدمير المنشآت النووية الإيرانية حيث أقر مسؤولون في وكالات استخبارات غربية انهم لا يعرفون مواقع جميع المنشآت النووية، كما ان الأهداف الإيرانية لا توجد في مكان واحد كما كان الحال في العراق سنة 1981 عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مفاعله النووي. فإيران استفادت مما تعرض له العراق فاحتاطت للأمر وقامت بتوزيع منشآتها على أرجاء البلاد بشكل محصن. 2- قدرة إيران على امتصاص الضربة الأولى والرد بضرب القواعد الأميركية وكذلك سفن الاسطول الأميركي في المنطقة وهي تملك قدرات غير تقليدية من حرب عصابات بحرية عبر استخدام زوارق سريعة مزودة بصواريخ تقوم بعمليات كر وفر وضرب سفن إلى تنفيذ عمليات استشهادية وفوق ذلك تستطيع أن تحول القوات الأميركية المنتشرة في العراق إلى أسرى لديها عدا عن الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى. 3- إيران ليست معزولة في المنطقة كما كان حال نظام صدام حسين بل هي تملك حلفاء مثل سورية والمقاومة في لبنانوفلسطين وبالتالي فأي حرب ضدها ستؤدي إلى اشعال جميع الجبهات ما يعني ان اسرائيل التي تلعب دوراً رئيسياً في الدفع باتجاه ضرب المنشآت النووية الإيرانية لن تكون بمنأى عن الحرب. وبالمقابل فإن الدول الخليجية لا تستطيع الموافقة بسهولة على استخدام أراضيها لضرب إيران كما حصل مع العراق، لأن تكرار ذلك مع إيران سوف يؤدي الى جعل دول الخليج عرضة للضربات الإيرانية. 4- وضع إيران مختلف كليا عن وضع العراق فهي لم تعتدِ على اي دولة، ولم تمارس عملاً مخالفا للقانون الدولي، وما تقوم به على صعيد تخصيب اليورانيوم وامتلاك الطاقة النووية للاغراض السلمية حق كفلته لها قوانين وكالة الطاقة النووية، أما ادعاءات واشنطن بأن إيران تعتزم تطوير برنامج لانتاج الاسلحة النووية فهو كلام لا يستند إلى أية وقائع ويفتقر الى المصداقية خصوصاً بعد أن اكتشف العالم عدم صحة المعلومات الأميركية عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وهي الذريعة التي استندت إليها إدارة بوش لاجتياح العراق وتدميره. 5- نظام الحكم في إيران يملك مشروعية شعبية، فهو إلى جانب كونه نظاما ديموقراطيا يتم انتخاب الرئيس والبرلمان فيه من قبل الشعب، فانه ينتهج سياسات اقتصادية واجتماعية تنموية تحقق نوعاً من العدالة الاجتماعية كما يرفض الخضوع للضغوط الخارجية ومحاولات تقويض استقلال إيران أو النيل من حقوقها في التطور والتقدم. ولذلك فان توجيه ضربة لايران لن يؤدي إلى إحداث شرخ بين النظام الحاكم والشعب، بل سوف يعزز التفاف الشعب حول حكامه ويجعل إيران اكثر تماسكا ووحدة في مقاومة الولاياتالمتحدة. 6- تملك إيران امكانية شل الاقتصاد الغربي بفعل قدرتها على اغلاق مضيق هرمز ووقف ضخ النفط الأمر الذي يقلق الولاياتالمتحدة وحلفاءها في الاتحاد الأوروبي. إلى جانب أنه بإمكانها التأثير على وضع العملة الأميركية من خلال بيع النفط باليورو بدلا من الدولار. 7- ان روسيا والصين ترفضان بشدة فرض أية عقوبات على إيران وكذلك استخدام القوة ضدها، لا بل وصل الأمر الى تحذير واشنطن من مغبة الاقدام على ذلك ما يجعل ادارة بوش في وضع يجعل من الصعب عليها اقناع الكونغرس بالموافقة على ضرب إيران في ظل هذه المعطيات الدولية. انطلاقاً مما تقدم يبدو واضحاً أن واشنطن، بعد ان فشلت في الحصول على موافقة مجلس الأمن على وضع الملف النووي الإيراني على جدول أعمال الفصل السابع، تقف أمام خيار من اثنين: الأول: خيار توجيه ضربة عسكرية من خارج مجلس الأمن، كما فعلت مع العراق. لكن هذا الخيار الموجود في مخيلة إدارة الرئيس بوش غير مضمون العواقب وقد يعود بمضاعفات خطيرة على الوجود الأميركي في المنطقة واستطراداً على إسرائيل. الثاني: خيار عقد تسوية تسمح لإيران بالاستمرار بتطوير تكنولوجيا نووية سلمية باشراف وكالة الطاقة الذرية، وهذا الخيار قد يكون الأقل سوءاً بالنسبة لواشنطن، فهو يجنبها الحرب غير المحمودة العواقب والنتائج، وفي الوقت ذاته يحد من الخسائر المتوقعة ويضمن بقاء الوجود الأميركي في مواقع حيوية في المنطقة بعد الانسحاب من العراق. أما إذا سلكت طريق استخدام القوة فليس هناك من ضمانة للنصر واستطرادا لبقاء الوجود العسكري الأميركي في المنطقة وكذلك المصالح الاقتصادية الأميركية. فأي خيار ستسلك إدارة المحافظين الجدد؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة. * كاتب سوري