الإيرانية، أنجز جاي سولومون كتابه «حروب إيران» (صدرت الترجمة العربية عن دار الكتاب العربي في بيروت- 2017)، وفيه أشار إلى «ألعاب الجاسوسية» والمعارك المصرفية، والصفقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط. من متابعة الكاتب سيتضح أن إعادة التشكيل التي ذكرها لم تكن كاملة الإنجاز، وأن الجديد الذي طرأ على الشرق الأوسط كان فقط تعميم الخراب في بعض البلاد العربية وفي أفغانستان، وأن استقرار الخريطة الجيوسياسية الجديدة لم يتحقق، بل إن ما بات في الحوزة هو دلائل زيادة النفوذين الإيراني والروسي، وتراجع الاهتمام الأميركي. هذان الأمران ليسا نهائيين حتى تاريخه، خصوصاً بعد نهاية عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما، وحلول الرئيس رونالد ترامب مكانه في البيت الأبيض. في ظل هذه الخلاصة التي لا تتوافق تماماً مع ما حمله عنوان كتاب جاي سولومون، تصبح قراءة المعلومات والتوقُّعات والإيحاءات التي أوردها الكاتب، قراءة غير محايدة لجهة إبداء الرأي في الخلاصات، ولجهة الاحتفاظ بحق عدم الانسياق إلى التوقعات والتقديرات ذاتها التي بناها سولومون على وفرة من المعلومات المستقاة من مصادرها، أو من بعض الذين أدلوا بدلوهم حول كل المسار الذي حكم مسيرة الولاياتالمتحدة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي صار واقعاً في شهر تموز (يوليو) 2015. مع ولاية الرئيس جورج بوش الابن، وعشية غزو العراق، كان السؤال الحاضر في أذهان الإدارة السياسية يدور حول مسألة: إيران حليف محتمل، أم هي خصم وعدو؟ يجد السؤال بعض مستنداته في موقف إيران من هجمات «القاعدة» على داخل أميركي في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فلقد بادر المرشد خامنئي يومها إلى إبداء القلق من الإرهاب العالمي، هو الذي كان يعادي طالبان، ويدعم مناوئيها، خصوصاً حركة مسعود شاه الذي كان يقود التحالف الشمالي المعارض. وجد البعض في الموقف الإيراني فرصة لتأسيس تعاون مستقبلي، فلم يتأخر وزير الخارجية كولن باول عن التصريح يومها، بأن «مصالحنا موازية لمصالح إيران». لقد كان تعاون إيران في أفغانستان وفي العراق ملموساً، لكن ذلك الموعد التصالحي كان ما زال بعيداً عن هدف إيران النهائي: الاعتراف بموقعها وبحقوقها النووية وبعدم تهديد نظامها، كذلك كان بعيداً عن خطة الإدارة الأميركية التي كانت تريد إيران عاقلة في محيطها، مقيّدة نووياً وملتزمة بالشروط التي تؤهلها لتكون جزءاً من السياق الدولي السياسي والاقتصادي. كان على موعد المصالحة التاريخية أن يتأخر، وكان على الطرفين الأميركي والإيراني، ومعهما مجموعة دولية كبيرة، أن يدفعا ثمن هذا التأخير. كانت المعلومات تتراكم لدى الاستخبارات الأميركية عن نشاط إيران النووي منذ العام 2002 أي في عهد إدارة بوش الابن، وكان ذلك ضاغطاً على السياسة الأميركية، مثلما كان ضاغطاً على النظام الإيراني الذي كان يخشى التعرُّض لضربة معادية بسبب ما اعتبره معاداة «الشيطان الأكبر» له، والذي يلقى التشجيع الإسرائيلي من الدولة العبرية، ومن أنصارها في دوائر القرار الأميركية. لكن التقييم الاستخباراتي الوطني الذي قُدِّم إلى الكونغرس جاء ليخالف الحديث الاستخباراتي فقال: إن إيران قد أوقفت جهد تطوير أسلحة نووية. كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد على حق عندما قال يومها: إن التقرير منّة من الله. تنفست إيران الصعداء، وتولت الأحداث اللاحقة تزويدها بمزيد من هواء التنفس السياسي، خصوصاً مع فوز أوباما بالرئاسة الأميركية. بدأ الرئيس الجديد عهده، وفي داخله فكرة أنه يقوم بتصحيح التاريخ، وأن الحوار هو البديل من الحرب، وأنه لترك بصمة سياسية هامة تمكن من التركيز على إنهاء التهديد النووي الإيراني، واستمالة إيران إلى الغرب، ومنع انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، وفتح المجال أمام تغيير من الداخل للنظام الإيراني. طليعة مبادرة أوباما حيال إيران، كانت رسالته إلى الشعب الإيراني في مناسبة عيد النيروز، ومع الرسالة العلنية رسالة سرية مع وسيط، قال فيها إن إدارته لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران، وإن الانفراج مع هذه الدولة يساعد على مواجهة «السنّية المتطرفة». هكذا يفهم مصدر الطمأنينة التي استندت إليها إيران وهي تتدخّل في أكثر من بلد عربي، ويفهم أيضاً التشدُّد الذي أظهرته في إدارة مفاوضاتها النووية مع أعضاء مجموعة الدول الخمس زائد واحد، فالأمران، التدخّل والتشدُّد، كانا يستندان إلى عنوان السياسة الأوبامية الجديدة، التي رفعت راية السلام لإيران، لأنها رأت أن رفع راية الاستسلام من قبل النظام الإيراني غير واردة، بخلاف الكثير من المتشددين الذين طالبوا بإيصال إيران إلى حافة الهزيمة، ومن مداخل تهديدية متنوعة. متسلّحة بهذه الطمأنينة، ردت إيران على سلسلة الهجمات التي استهدفت علماءها النوويين بضربات طاولت أميركيين ويهوداً وسيّاحاً في أكثر من بلد، ووصلت في تفكيرها الانتقامي إلى استهداف مواقع أميركية في المملكة العربية السعودية، إلى التعاون مع الجريمة المنظمة في المكسيك، لتنظيم محاولة اغتيال لسفير المملكة في واشنطن، عادل الجبير، وزير الخارجية السعودية الحالي. حرب الاغتيالات والتفجيرات المتبادلة لم تكن ميدان الرد الوحيد بل شملت الميدان الإلكتروني، فعندما أطلقت الاستخبارات الأميركية «فيروساتها» على كومبيوترات المفاعلات النووية، رد الحرس الثوري الإيراني بإنشاء «جيش إلكتروني» استهدف بنوكاً أميركية وشركات ومقار حكومية، وكانت الخسائر ببلايين الدولارات. لكن الردود الإيرانية الأهم على السياسة الأميركية، ستأتي مجدداً من الدخول الإيراني الميداني إلى ساحة معركة منع الاستقرار الأميركي في العراق، من خلال دعم الميليشيات الشيعية الحليفة، والسماح بتدفُّق «المجاهدين السنّة» إلى العراق، من منافذ الحدود الإيرانية المباشرة معه، ومن الحدود السورية، حيث سهل النظام السوري الحليف على أولئك المتشدّدين الوصول إلى سورية والتدرّب فيها ومغادرتها بأمان إلى الأراضي العراقية. وقد بنت إيران محوراً للممانعة في وجه أميركا وحلفائها، وكان النظام السوري «درّة تاج» هذا المحور، ومسرح الصراع الدامي اللاحق، الذي تداخلت فيه جملة المصالح الإقليمية والدولية والعربية، وواسطة عقد الهلال الشيعي الذي يحفظ لإيران إطلالة متقدمة على البحر الأبيض المتوسط، ويديم تدفق الدعم السياسي والمالي الإيراني إلى وليدها «حزب الله» اللبناني، الذي أناطت به العديد من الأدوار، وجعلته عنواناً لها وممراً إلى التدخل في الصراع حول القضية الفلسطينية. قامت إيران بتجميع الأوراق قبل الوصول إلى طاولة التفاوض الجدي مع الأميركيين حول القضية النووية، فلقد أراد صاحب القرار الإيراني أن يكون في موقع القوة وهو يحافظ على حقه في امتلاك القدرة النووية «لأغراض سلمية». لكن تلك الأوراق لم تكن موازية لورقة الضغوط التي صاغتها وابتكرتها الإدارة الأميركية، هذه الأوراق كانت تريد جلب إيران إلى التفاوض مصحوبة بالقدرة الأدنى والفاعلية الأقل، أي بما يجعلها قابلة لصياغة تسوية حول ملفها النووي. أظهرت إيران قدرة على الرد في الميدان القتالي، وفي الميدان الاستخباري، وفي المجال التقني الإلكتروني، وقد واكبها في صمودها الهجومي هذا، دعم دولي منع عنها غائلة مشاريع القرارات العديدة التي جرى تقديمها في مجلس الأمن الدولي. كانت روسيا ومن ورائها الصين، جاهزة دائماً لاستعمال حق النقض، انسجاماً مع مناوأة سياسة القطب الأميركي الواحد، ومع السعي إلى احتلال موقع أكبر ونفوذ أهم على طاولة صناعة السياسات العالمية. لكن بعيداً من ذلك كانت إيران على موعد مع معركة أطلقتها وزارة الخزانة الأميركية وقضت في نهاية المطاف بخنق الاقتصاد وبوصول إيران إلى وضع الخروج من الاقتصاد العالمي، وبقيادة البلاد إلى حافة الانهيار الاقتصادي الشامل، الذي ينذر حقاً، بانهيار النظام الإيراني برمته. كانت كل الإجراءات الاقتصادية مفتوحة أمام وزارة الخزانة الأميركية، وأمكن تأمين اصطفاف الحلفاء ولو على امتعاض، فالتزمت أوروبا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، وأقفلت منافذ التمويل من البنوك الكبيرة إلى البنوك الصغيرة، ومن خالف أو حاول التهرب، دفع مبالغ مالية باهظة جزاء مخالفته. كان من شأن هذه الحرب الاقتصادية الضارية أن تأتي بإيران إلى التفاوض بجدية، خصوصاً عندما أبلغ نائب حاكم البنك المركزي الإيراني، الرئيس الجديد حسن روحاني، بأن الحل الوحيد هو الوصول إلى مئة بليون دولار مجمّدة بسبب العقوبات، وهذا يتطلّب مفاوضات عاجلة مع باراك أوباما لإنهاء الأزمة النووية. وصلت إيران إلى ساعة الحقيقة، وكان في انتظارها أوباما الذي جعل الجلوس معها هدفاً لفترته الرئاسية. لقد حاذر أوباما إقلاق إيران أو إغضابها في ملفات حساسة، فتغاضى عن أفعال حليفها الأسد، وتقاعس عن نجدته «الديموقراطية» للمعارضة السورية، وهو ظل ساكناً إزاء «الثورة الخضراء» الإيرانية التي احتشد جمهورها بالملايين رافضاً ما سمَّاه تزويراً في العملية الانتخابية، وكان مثيراً للدهشة إغماض أعين الإدارة الأوبامية عن حملة القمع التي تولاها الحرس الثوري والباسيج ضد المتظاهرين. جاء هذا الأداء ليكمل الصورة التي قال بعض العارفين بملامحها، إن غزو العراق كان لتهديد إيران أيام بوش الابن، وليس بسبب ملف أسلحة الدمار المزعوم، لكن التهديد سيتراجع مع أوباما ليصير كل تضييق عليها متصلاً بنافذة سياسية توصلها إلى طاولة المفاوضات... وهكذا كان. لقد عبرت إيران وأميركا بالحملة التفاوضية من نيويورك إلى فيينا مروراً بسويسرا، ومع القنوات الديبلوماسية المعلنة، كان ثمة قناة سرية ثنائية بين واشنطن وطهران، دخل على خطها السلطان قابوس، بوساطة موفده سالم بن ناصر الإسماعيلي. تأخرت الحصيلة، أي الاتفاق، لكن الأخير جاء مفاجئاً حتى لحلفاء أميركا الأوروبيين والعرب وإسرائيل. فالخطوط الحمراء للإدارة الأميركية لانت، وبعض الشروط جرى تعديلها في مصلحة إيران. لقد كان أوباما مصراً على الاتفاق بأي ثمن، وبدا وزير خارجيته جون كيري متحمساً للاتفاق أكثر من وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بحسب رأي بعض المتابعين. شهدت فيينا توقيع اتفاق نهائي حول المسألة النووية الإيرانية. جرى تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي، وأخرج مفاعل آراك من الخدمة، واحتفظ بمفاعل قم، وسمح بالحفاظ على جزء كبير من البنية التحتية النووية، واتفق على سنوات أقل حول الحظر المتعلق ببعض الأسلحة، وفُتحت حنفية التدفُّق المالي إلى الخزينة الإيرانية. معارضو الاتفاق رأوا فيه تنازلاً أميركياً لإيران. معارضة الاتفاق من قبل الكونغرس لم تفلح في العرقلة. استياء إسرائيل عبّر عنه نتانياهو بالقول: هذه ليست تسوية تاريخية، بل خطأ تاريخي. العرب خرجوا قلقين من تنامي النفوذ الإيراني، ومن صفقات مستقبلية تعقدها أميركا مع إيران، تهدد أمن المنطقة العربية. وحتى إشعار آخر، لم تصل الصفقة إلى تعديل سلوك إيران الداخلي أو الخارجي، وزاد تشدُّدها هي والروسي في ملفات المنطقة، وما أراده أوباما فترة استقرار في الشرق الأوسط، قد يكون فترة لاختمار حرب أوسع مقبلة... ومن يدري؟! * كاتب لبناني.