يعرف كثر من الناس الطبيب الإنساني ألبيرت شفايتزر، الذي عاش سنوات طويلة من حياته في بعض مناطق القارة الأفريقية حيث اهتم بالناس البائسين وبأمراضهم وساعدهم على الشفاء منها، أو سرّى عنهم حين كان يعز مثل ذلك الشفاء. والمهتمون بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يعرفون ألبيرت شفايتزر أيضاً بصفته قريب صاحب"الوجود والعدم"من ناحية أمه. غير ان قلة من الناس تعرف أن شفايتزر، المفكر والطبيب الفرنسي الناطق والكاتب بالألمانية، كان ذو معرفة واسعة بالأديان الآسيوية القديمة، وخصوصاً بكل ما يمت الى الفكر الهندي بصلة. وهو وضع معرفته هذه في كتاب كبير الحجم أصدره، بالألمانية، في العام 1935، ليترجم من فوره الى الفرنسية، بين لغات أخرى، ويصبح الى حين من الزمن مرجعاً في هذا الموضوع. عنوان الكتاب هو"نظرة المفكرين الهنود الى العالم"، لكنه حين ترجم الى اللغات الأخرى، أعطي عنواناً أكثر موسوعية هو"مفكرو الهند الكبار"، والحقيقة ان هذا العنوان يبدو أكثر ملاءمة للكتاب، حتى وإن كان لا يترجم طموح شفايتزر بأن يكون كتابه كتاباً سجالياً لا مجرد كتاب تعليمي موسوعي. على رغم تطلعات شفايتزر، جاء الكتاب، حافلاً بالمعلومات التي استقبلها المفكرون والمهتمون في ذلك الحين بترحاب. ولكن حين وصل الحديث الى المساجلات والتفسيرات، تغير الوضع، وقال كثر انهم قد يقبلون من شخصية في قامة الطبيب الإنساني هذا وأن تدلي بدلوها في مجال الحديث عن قارة الفكر الهندي الواسعة، كنوع من تكريم هذا الفكر ولفت الأنظار اليه في الغرب. أما بالنسبة الى مسائل التعمق في دراسته أو في عالم المقارنة بينه وبين صنوف الفكر الأخرى، او حتى مقارنته بالأديان الكونية، فمسألة تصبح في حاجة الى تخصص من الواضح ان الدكتور شفايتزر ليس لديه متسع من الوقت للدنو منه. ومن الواضح ان هذا القول، إنما كان نقداً وعميقاً... مهذباً للكتاب، ومن ثم، محاولة وضعه في إطاره المتواضع الصحيح. ومع هذا، إذا نحينا جانباً هذا الحكم الذي يبدو، بعد كل شيء، متخصصاً، يمكننا أن نرى في"مفكرو الهند الكبار"عملاً مهماً، يعرض للمرة الأولى في الساحة الثقافية الأوروبية تفاصيل وتواريخ تلك الفلسفات الهندية التي كانوا سمعوا بها، في أوروبا والعالم الغربي، كثيراً، من دون أن يتاح لهم أي دخول حقيقي في تفاصيلها. ولقد أتى كتاب شفايتزر ليفي بالغرض في هذا السياق. منذ البداية وفي مقدمة كتابه يقول المؤلف انه كان بدأ اهتمامه بالفلسفة الهندية، منذ كان لا يزال على مقاعد الدراسة في الجامعة، حين كان يقرأ مؤلفات الفيلسوف شوبنهاور بتعمق وإيمان. ووجد لدى هذا المفكر اهتماماً فائقاً بفلسفة الهند وأديانها. وعلى الفور، راح يقرأ كل ما يقع بين يديه من كتب مترجمة وكتب عن فلاسفة الهند ليقع تحت تأثير هذا كله، انطلاقاً من مبدأ بسيط وهو أن الفكر الهندي ومهما كانت تشعباته إنما كان ولا يزال هدفه الرئيس ان يعبر عن تلك الوحدة الروحية التي تربط الإنسان بالكون. وهذه الوحدة هي ما حرك خيال شفايتزر وفكره منذ سنوات صباه الأولى، ما يعني انه وجد لدى الهنود ضالته وطريقه الى الفكر الملائم لإنسانيته. ولسوف يقول شفايتزر لنا ان ذلك التوحد الروحي بين الإنسان والكون إنما هو القاسم المشترك بين كل الفلسفات الهندية. وهو، من أجل تأكيد هذه الفكرة، راح في كل الفصول التالية للمقدمة، يعرض أفكار أولئك الفلاسفة والمفكرين، من الذين كان القارئ الغربي يقرأ أسماء بعضهم للمرة الأولى في حياته. ولعل أول ما يلفت النظر في تلك الفصول هو ان شفايتزر لم يسع أبداً الى أن يقيم تلك المقارنة المضادة، في ذلك النوع من المؤلفات، بين الفكر الغربي العقلاني والفكر الروسي الذي يهيمن على الفلسفات الهندية. فهذا لم يكن هدفه بأي حال من الأحوال. هدفه كان أن يضع الفكر الذي يدرسه خارج حيز الخلافات والسجالات، لأن المطلوب بالنسبة إليه ليس المفاضلة، بل الوصول الى صوغ صورة لفكر يرى انه"يشكل خيراً للإنسانية جمعاء". وعلى هذا النحو يتحدث المؤلف، أولاً عن نظريات الأوبانيشاد التأسيسية لينطلق منها راسماً صورة لكل الأفكار والنظريات والاجتهادات التي انبثقت عنها لا سيما نظرية السامخيا"، ثم نظرية"الجاينيسية"التي يفيدنا هذا المؤلف الإنساني المسالم، فإن من أهم أوجهها مطالبتها الإنسان بأن يفعل كل ما يشاء شرط ألا يلجأ الى العنف. ان كل شيء يمكن الوصول اليه من طريق السلام والهدوء والحوار... وربما من طريق الصمت أيضاً. وذلكم هو مبدأ"الأهمسا"الذي كان غاندي، في ذلك الحين، من كبار متبعيه وجرّ عشرات ملايين الهنود إليه. بعد ذلك يصل شفايتزر الى بوذا، الذي كانت له مكانة كبرى في الهند سابقاً، وقبل أن يتجه شرقاً ليصبح صاحب النظريات الجنوب شرق آسيوية. وهنا يدرس شفايتزر شكلي البوذية المعروفين، الشكل النخبوي الأول المعروف باسم"هينايانا"، والشكل الثاني الأكثر تطوراً وشعبية والذي يعرف ب"ماهايانا". ومن ثم يشرح لنا المؤلف الأسباب الرئيسة الثلاثة التي جعلت البوذية تخرج من الهند، قائلاً ان أول تلك الأسباب هو رفض بوذا نفسه لأفكار ونصوص"الفيدا"المقدسة والتي كانت تشكل عصب النزعة الهندية الإيمانية، والسبب الثاني هو الإيمان باستحالة الخلاص لمن لا يمارس التقشف ويظل يعيش بين أفراد عائلته. أما السبب الثالث والأهم بالنسبة الى شفايتزر فيكمن في وصول الإسلام الى الهند، حيث بدا الإسلام منذ بدايته ديناً واقعياً لا تلاءم أفكاره مع غوامض البوذية وطقوسها. إثر هذا يدرس شفايتزر تاريخ دخول البوذية الى الصين في القرن الأول قبل الميلاد، ثم الى اليابان خلال القرن الميلادي السادس، فإلى التيبت، حيث أدى هناك الى ولادة تبجيل اللاما والنزعة اللامية. وهنا بعد أن يشرح هذا كله من منظور سردي تاريخي يكاد يخلو من أي نزعة سجالية، يتحدث شفايتزر باستفاضة عن نظريات"باغافاد جيتا"الدائرية، ما يقوده الى دراسة الفلاسفة الهنود المعاصرين، أي من الذين ينتمون الى نهايات الحقب القديمة ووصل السن ببعضهم الى زمن شفايتزر نفسه ومنهم رام موهان راي وراما كريشنا وفيفيكانندا وصولاً المهاتما غاندي والشاعر الكبير رابندرانات طاغور... الحقيقة ان هذا كله جعل من كتاب ألبيرت شفايتزر 1875 - 1965 كتاباً شعبياً، خصوصاً أنه في معظم فصوله آثر أن يعرض الأفكار والتواريخ، من دون أي تعمق في الدراسات والأفكار. ولا بأس من أن نذكر هنا ان النجاح الذي حققه الكتاب دفع كثراً من المؤلفين الى محاولة تقليده... وكان ثمة كتب صدرت من بعده في الموضوع نفسه، لكنها أتت أكثر تخصصاً وعمقاً، ما سرّع بجعل كتاب شفايتزر ذا قيمة تاريخية أكثر منه كتاباً ذا قيمة علمية وتدريسية حقيقية.