"لقد فتح هذا الكتاب لهنري كوربان، أمام الفكر الغربي، باباً واسعاً جديداً للثقافة الشرقية وكشف له كنوزاً غنية بالانتاج الديني الفلسفي والتصوف الاصيل. لقد بذل الاستاذ المؤلف البروفسور هنري كوربان، في هذا العمل الكبير جهداً متواصلاً يدهش القارئ ويلزمه بالتقدير والاعجاب لأنه تجاوز فيه طاقة الفرد والافراد، ذلك ان الابحاث التي يتحدث عنها المؤلف كانت، في الكثير منها، مودعة في صدور العلماء الراسخين في العلم وفي اوراق الكتب المخطوطة. وقد تعرف العلماء وانتشروا في اقطار الشرق الاسلامي وتبعثرت الكتب في خزائن المكتبات الخاصة والعامة في مختلف انحاء العالم. والمؤلف مع ذلك يحاول، بصبر وجلد متناهيين، سبر اغوار هذه الابحاث واكتشاف جواهرها وترجمتها وتنسيقها واخراجها"وهذا عمل يتجاوز جهود كثير من الباحثين، وخدمة يقدمها المؤلف للثقافة العالمية تعلو الكثير من خدمات المؤسسين". بهذا الكلام قدم الإمام السيد موسى الصدر، ذات يوم لترجمة عربية حققت للجزء الاول من كتاب كان قد صدر للمرة الاولى في العام 1964 وأثار ضجة في فرنسا، وطن مؤلفه، اذ قدم جديداً، حول موضوع كان، هو، غير جديد على المستشرقين منذ قرون: تاريخ الفلسفة الاسلامية. وكان الكتاب يحمل هذا العنوان بالتحديد وهو من تأليف العالم الفرنسي هنري كوربان، الذي كان قبل ذلك وضع كتابين اولهما عن ابن سينا والثاني عن ابن العربي، لكن عمله الاكبر، اضافة الى"تاريخ الفلسفة الاسلامية"سيكون عليه ان ينتظر العام 1974 قبل ان يظهر في شكله النهائي، ونعني به"في الاسلام الايراني"الذي قدم في اجزائه الاربعة موضوعاً كان نادراً ما دنا منه المستشرقون. الكتاب الذي نحن هنا في صدده هو، اذاً،"تاريخ الفلسفة الاسلامية"الذي يتألف اصلاً من الجمع بين نصين طويلين كان اولهما "منذ الجذور الاول حتى موت ابن رشد" ظهر مستقلاً في كتاب خاص، اما الثاني فكان كوربان قد اعده ليشكل جزءاً اساسياً من الجزء الثالث من كتاب"تاريخ الفلسفة"ضمن سلسلة"لابلياد"المرموقة. والحقيقة انه كان من الصعب على أي مفكر فرنسي آخر ان يوصل الفلسفة الاسلامية، بكل ابعادها وتفاصيلها الى تلك السلسلة، لأن اول ما يميز هذا الكتاب انما هو شمولية تفصيلية يفتقر اليها الكثير من الكتب التي عالجت تاريخ الفلسفة الاسلامية. ومن هنا يبقى هذا الكتاب استثنائياً في مجاله، وفي تعامله مع تاريخ الفلسفة الاسلامية. وتبقى لمؤلفه سمعة الرائد المؤسس. نطلق هنري كوربان في كتابه من فكرة اساسية، من المدهش ان كثراً، من قبله ومن بعده، لم يروها بديهية، وهي ان"الفلسفة في ديار الاسلام لم تكتف بأن تتلقى إرث الاغريق. وان دورها في التاريخ لم يتوقف مع موت ابن رشد". ونعرف ان معظم مؤرخي الفلسفة الاسلامية كانوا يرون ذلك، كانوا يرون ان الفكر الفلسفي الاسلامي انما هو آت من الفكر الاغريقي، وانه انتهى في الاندلس مع كتابات ابن رشد التي كانت تنويعاً على ذلك الفكر. ابداً... يقول هنري كوربان، ويغوص بعيداً ما قبل الاغريق العقلانيين، ثم يصل في الازمان الاحداث، رابطاً الفلسفة الاسلامية بما تلا ابن رشد ولا سيما في المشرق العربي والفارسي، حيث تواصلت الفلسفة الاسلامية بأشكال اخرى، وبنزعات عقلية مختلفة عما كانت عليه النزعات العقلية مع وارثي أرسطو. وفي سبيل شرح هذا كله، يعيد كوربان الاعتبار الى"التفكير الفلسفي الآخر"، من دون ان يفصل، طبعاً، بين ما هو ? تقنياً ? عقلاني، وبين ما يعتبر غنوصياً او هرمسياً، أي اكثر ابتعاداً من العقل الخالص. ومن اجل هذا يحدد لنا منذ البداية انه هنا يتحدث عن الفلسفة الاسلامية، وليس كما اعتاد الكتاب ان يقولوا منذ العصور الوسطى،"الفلسفة العربية". وبالنسبة اليه، ثمة فارق كبير. ويرى، بالتالي ان تصوره للفلسفة الاسلامية، لا يمكنه ان يحد بما اعتادت الكتب المدرسية ان تتحدث عنه، مؤكداً انه اذا كان المغرب والغرب بالتالي قد اهتما بالرشدية، ونظرا في الاعتبار الى"الضربة القاصمة التي وجهها الغزالي الى الفلسفة"، فإن المشرق، ولا سيما ايران، لم يتنبه الى الرشدية ابداً، كما انه لم ير ابداً ان"ضربة"الغزالي قد انهت الفلسفة... ومن هنا ما يمكن قوله عن كتاب كوربان من انه"اعادة نظر شاملة"، ليس فقط في تفاصيل وتاريخ الفلسفة الاسلامية، بل خصوصاً في منهج الدنو منها. وكان هذا جديداً، في توليفته على الاقل. يتألف كتاب كوربان، كما اشرنا، من قسمين اولهما يتوقف عند موت ابن رشد متناولاً مرحلة زمنية تمتد من العام 595م، الى العام 1198 وتعاون كوربان في كتابه مع سيد حسين نصر وعثمان يحيى. اما الثاني فيتناول تاريخ الفلسفة الاسلامية من موت ابن رشد وحتى"ايامنا هذه"، أي اواسط القرن العشرين. وفي هذين الجزأين تناول كوربان، تباعاً"كل التفاصيل والحقب"المتعلقة بموضوعه. وهكذا نراه يتناول على التوالي منابع التفكير الفلسفي في الاسلام لا سيما التفسير الروحي للقرآن الكريم، والترجمات عن افكار الامم القديمة. ثم ينتقل في فصل ثانٍ الى التشيع وفلسفة النبوة، حيث يدرس على التوالي الشيعة الاثني عشرية ثم الاسماعيلية، قبل ان ينتقل في فصل ثالث الى علم الكلام السنّي المعتزلة، فأبو الحسن الأشعري فالأشعرية. وفي فصل رابع نراه يتوقف عند"الفلسفة وعلوم الطبيعة"الهرمسية، جابر بن حيان، موسوعية اخوان الصفا، الرازي، البيروني، الخوارزمي، ابن القيم.... ويخصص كوربان الفصل الخامس لمن يسميهم"الفلاسفة ذوي النزهة الهيلينية". من امثال الكندي والفارابي... وصولاً الى الغزالي ونقده الفلسفة. ثم ينتقل الى الصوفيين، قبل ان يخصص فصلاً بأكمله للحديث عن السهروردي وفلسفة الاشراف. واذ يتوقف عند هذا المفكر الذي غالباً ما يسقطه التاريخ"الرسمي"للفلسفة ينتقل بعد ذلك الى الاندلس ليدرس ابن مسرة وابن حزم وابن الصيد وابن طفيل وصولاً الى ابن رشد، رابطاً كل واحد منهم بالمدينة التي عاش فيها وكتب المرية... قرطبة، سراغسطة، قادش... الخ. وبهذا ينهي كوربان الجزء الاول من كتابه، خاتماً هذا الجزء بفصل قصير سماه"انتقال"استخلص فيه دروس الجزء، ممهداً لولوجه ? عبر اسئلة اساسية يطرحها - الجزء الثاني الذي يستهله بالحديث عن كيف ان الفلسفة، بعد الاندلس وموت ابن رشد، واصلت طريقها الفكري لا سيما في المشرق العربي، وذلك في اتجاهاتها جميعاً: الفكر السني كما عند الفلاسفة الابهري وابن سبعين وقطب الدين الرازي ثم عند الكلام مثل فخر الدين الرازي والتفتازاني والرايجي... ثم خصوصاً عند ابن تميمة وتلامذته من"خصوم الفلسفة"، واصلاً الى الموسوعيين من طينته القزويني وابن خلدون. وهنا اذ يختتم المؤلف عرضه للفكر السني عند المؤرخ الكبير يتنقل الى ما يسميه"ميتافيزيقيا الصوفية"قبل ان يصل الى"الفكر الشيعي"، حيث يدرس عدداً كبيراً من المفكرين، من الذين سنعود ونلتقيهم بشكل اكثر تفصيلاً ووضوحاً، وترابطاً حتى، في كتابه الموسوعي التالي"في الاسلام الايراني"والذي يعتبر، من قبل معظم الدارسين، اعظم انجاز حققه في مضمار موضوعه هذا. غير ان انجازات هنري كوربان 1903-1978 لم تقف، بالطبع، عند هذين السفرين، فهو - حتى وان كان قد اعتُرف له، بأنه في هذين الكتابين"قد قلب كل المسلمات الغربية القديمة حول تحقيب الفكر الاسلامي - لم يتوقف طوال حياته عن الانتاج الفكري من حول فلسفة اسلامية كان قد بدأ الغوص فيها حقاً في العام 1939 حين عاش حقبة في تركيا ثم في ايران، بدءاً من العام 1945. وهكذا منذ ذلك الحين، ابدى اهتماماته القديمة بالفكر الالماني كان اول من ترجم هايدغر الى الفرنسية باهتماماته الجديدة، التي صارت شغله الشاغل حتى رحيله، ولم يتوقف خلال ذلك كله عن التنقل بين شتى ارجاء العالم الاسلامي، مركزاً خصوصاً على ايران. ومن كتب كوربان المهمة، الى ما ذكرنا:"رجل الاشراق في التصوف الايراني"وپ"الفلسفة الايرانية والفلسفة المقارنة"،"الانسان وملاكه"الذي صدر بعد رحيله.