مجموعة أحداث وتطورات تسارع وقوعها في فترة زمنية متقاربة جداً أدت في مجملها إلى تحريك المياه الراكدة على غير صعيد وفي أكثر من اتجاه في المنطقة من لبنان إلى إيران مروراً بسورية والعراق ومصر وفلسطين أكدت كلها أن الفترة الراهنة هي مرحلة المتغيرات التي ليس بالضرورة أن يكون طابعها يتسم بالايجابيات الحتمية. ذلك أن الرياح والأعاصير عندما تعصف تجتاح معها الكثير باسم التغيير وتجديد الأمر الواقع. ونتوقف عند بعض هذه المحطات. - اجتماع بغداد الذي التقت فيه لأول مرة الولاياتالمتحدة ودول الجوار العراقي وسورية وإيران بالاضافة إلى ممثلي الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن. ولأن الديبلوماسية تكتسي أحياناً ثوب المراوغة والرياء فقد تم نفي حدوث أي اتصال مباشر بين السفير الأميركي وممثلي سورية وإيران، لكن السفير زلماي خليل زاد الذي ودّع بغداد بهذه المهمة وانتقل إلى موقعه الجديد كسفير في الأممالمتحدة كشف لصحافيين أميركيين فقط، ما الذي جرى، وسمحت وزارة الخارجية الأميركية بالمعلومات التالية:"التقينا وحيينا الوفدين السوري والإيراني وكان لدينا حديث قصير مع كل واحد منهما... ذكرت قضية التدخل وقضية الأسلحة التي تدخل البلد والأشخاص الذين يأتون عبر الحدود، وقضية الأموال والتدريب ودعم الميليشيات والجماعات المسلحة غير الشرعية". ويضيف:"هناك تبادل للحديث أحياناً بشكل صريح وأحياناً أخرى بشكل ينطوي على المزاح". ولم يكن متوقعاً من اجتماع بغداد التوصل إلى حلول سحرية للوضع المتفجر في العراق لكن الأهمية تكمن في حدوث هذا الاجتماع وبمن حضر حيث كانت واشنطن تعارض الأخذ بنظرية بيكر - هاملتون باعتبار دمشقوطهران جزءاً من الحل وليس فقط جزءاً من المشكلة. وسيعقبه اجتماع آخر في اسطنبول الشهر المقبل لمتابعة مواضيع البحث الأمر الذي يؤكد من جديد المدى الذي بلغه الوضع في العراق من تدهور خطير. وبعد فشل استراتيجية الهجوم التي تم اعتمادها أخيراً في بغداد وفي بعض المدن العراقية، تعكف الولاياتالمتحدة على تنفيذ ما يمكن تسميته باستراتيجية التراجع... واعادة التموضع، ومراجعة جدولة الانسحاب العسكري. ويتلاقى هذا التطور مع أمور أخرى. فقد أعلن القائد الجديد للقوات الأميركية الجنرال ديفيد بتريوس بكل وضوح أن لا حل عسكرياً للوضع في العراق مغلباً الحلول السياسية عن طريق مفاوضة الفصائل والأطراف والجبهات التي حولت العراق إلى جحيم وهي تهدد بما هو أعظم. وها هي الأرقام تعكس الصورة للخسائر الأميركية. عدد القتلى: ثلاثة آلاف وثلاثمئة جندي حتى كتابة هذه السطور، وعدد الجرحى يزيد على أربعين ألفاً. أما عدد الطائرات المروحية التي تم إسقاطها فقد تجاوز المئة بما أصبح يعرف"بمجزرة البلاك هوك". وهناك احصاءات لافتة حيث أن حرب العراق هي الحملة العسكرية الأولى الطويلة التي تخوضها الولاياتالمتحدة بجيش بأكمله من المتطوعين بالمقارنة مع 12 في المئة من العدد الاجمالي للسكان شاركوا في الحرب العالمية الثانية. كما شارك اثنان في المئة في حرب فيتنام. أما في حرب العراق وأفغانستان فلم يشارك سوى أقل من نصف في المئة من المحترفين. وينعكس المأزق العسكري العراقي على أجواء الكونغرس في واشنطن حيث يقود الديموقراطيون حملة عنيفة لإرغام إدارة الرئيس جورج دبليو بوش على إعداد جدول متكامل بالانسحاب من العراق. كل هذه التطورات تعني سقوط مبدأ الحروب الاقتحامية، وفشل سياسة الحروب الاستباقية التي قامت عليها نظرية الرئيس بوش. ويشير المتابعون عن كثب للشأن العراقي إلى ضرورة توقع المزيد من التطورات الدراماتيكية التي سترغم واشنطن على تسريع عملية سحب قواتها علماً أن المأزق يكمن في زاويتين: لا الانسحاب السريع يحل الإشكال، ولا البقاء الطويل في العراق سيوقف الحرب. أي أن الحل العسكري سقط وأن الحلول الأخرى دونها صعوبات كثيرة. * التطور الآخر اللافت، انعكاس القمة السعودية - الإيرانية على الوضع في لبنان. فبعد انقضاء اعتصام المئة يوم من قبل المعارضة ظهر التمني السعودي بضرورة التقاء الرئيس نبيه بري بالسيد سعد الحريري وهذا ما حدث. ومع كل ما يمثله هذا التطور من اختراق في الجدار المسدود فليس سهلاً تصور الوصول إلى حل للأزمات المتراكمة كافة، وأقصى ما يمكن التوصل إليه التفاهم على"سلة حلول"يبدأ تطبيقها على مراحل وتكون الأولوية لتأمين ترتيب متزامن بين الموافقة على المحكمة ذات الطابع الدولي، وعلى تفاصيل حكومة الاتحاد الوطني. وهناك رغبة ملحة في التوصل إلى"تسوية ما"قبيل انعقاد القمة العربية في الرياض في الثامن والعشرين من آذار مارس الحالي، إلا أن بلوغ مراحل الحل بعد"حلحلة"بعض العقد دونها الكثير من العقبات، لكن التفكير في تواصل الأزمة والتداعيات الخطيرة التي تترتب على ذلك توجب على الأطراف اللبنانية المختلفة تقديم تنازلات للوصول إلى حل، حتى لا يتحول تطبيق شعار"لا غالب ولا مغلوب"الذي يرفعه جميع الوسطاء إلى أزمة جديدة، إذ أن الأزمات الكبرى لا تنتهي في العادة إلا بشعور كل طرف بالحصول على مكاسب. * ويتداخل مع حل الأزمة اللبنانية تطور آخر تمثل بزيارة خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية في المجموعة الأوروبية إلى دمشق بعد قطيعة تواصلت على مدى سنتين. ووجدت الأطراف الأوروبية أنه لا بد من محاورة النظام في سورية وطلب مساعدته في إخراج لبنان من الوضع الصعب والمعقد القائم حالياً. وحتى لا تعتبر هذه الخطوة تراجعاً حرصت المصادر الأوروبية على وصفها بأنها كانت لممارسة"المزيد من الضغوط على الرئيس بشار الأسد"، فيما أكد الرئيس السوري أن الأمر يعود إلى اللبنانيين للتفاهم على حل ما بينهم... وأن سورية تؤيد ما يتفق عليه اللبنانيون. فمن الذي يتذاكى على الآخر هنا؟ انه تحول أوروبي يتوقع البعض أن تلاقيه دمشق في منتصف الطريق مقابل الحصول على بعض"الحوافز". وبانتظار ذلك ما زال الوضع في لبنان في عنق الزجاجة بانتظار ما ستسفر عنه ضغوط الساعات والأيام القليلة المقبلة حيث يبرر الفشل بالشيطان حيث التفاصيل. * تطور آخر حدث وتمثل بزيارة نائب الرئيس السوري فاروق الشرع إلى القاهرة وتقديم بعض الايضاحات حول الأزمة التي نشبت إثر خطاب للرئيس الأسد تحدث فيه عن"أنصاف الرجال". فإذا به يبلغ الرئيس حسني مبارك أن القصد لم يكن يستهدف بعض الزعماء العرب، بل بعض زعماء الدول العربية الصغيرة!.. والواضح - حتى الآن - أن الرئيس بشار الأسد سيشارك في قمة الرياض ويجري العمل على ترتيب قمة ثنائية بينه وبين المضيف الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وكما أبلغ أمين عام الجامعة العربية السيد عمرو موسى الزميل غسان شربل أن قمة الرياض لن تكون"قمة بيانات"بل ان التركيز سيجري على الصراع المذهبي والطائفي الذي يجتاح المنطقة. وعليه يؤمل أن تكون قمة الرياض هي قمة القرارات الاستثنائية لا البيانات الرتيبة التي عهدناها في مؤتمرات القمم السابقة والتي لا تغني ولا تسمن من جوع! * أما"الاختراق الآخر"فهو قيام حكومة الاتحاد الوطني في فلسطين تنفيذاً لمقررات لقاء مكةالمكرمة. وأمام هذه الحكومة العديد والكثير من المهام الصعبة لانتشال الوضع الفلسطيني مما هو فيه وعليه. ورغم أن رد الفعل الإسرائيلي الفوري لم يكن مشجعاً من حيث القول بعدم الاعتراف بهذه الحكومة أو التعاطي معها، فان المراقبين المتابعين لهذا الشأن يعتقدون بأن حكومة ايهود أولمرت لن تلقي بأوراق التطرف التي تنادي بها بسهولة والدليل على التناقض في الموقف الإسرائيلي هو الإعلان الصادر عن أكثر من مسؤول - وتحديداً رئيس الحكومة ووزيرة الخارجية تسيبي لفني من أن"المبادرة العربية"التي ستعرض على قمة الرياض تتضمن"بعض الايجابيات"! وهذا يحدث لأول مرة مع استمرار إسرائيل في ممارسة الضغوط وطلب إسقاط حق العودة للفلسطينيين والوارد في القرار رقم 194. ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت الذي تدنت شعبيته إلى إثنين بالمئة فقط يواجه ضغوطاً كثيرة. ومثال على ذلك ما نشر في صحيفة"هآرتس"بقلم الوف بن من"حيث ضرورة موافقة إسرائيل على المبادرة السعودية - العربية حتى ولو كأساس للمفاوضات، فان هذه الخطوة سيكون بوسعها أن تكون بداية لاستئناف المسيرة السياسية العالقة مع الفلسطينيين"، ومقال آخر في نفس الصحيفة يتهم أولمرت بالعودة إلى"أسلوب المناورة والطرق الالتفافية بدلاً من السير على سكة السلامة الواضحة التي شقها العاهل السعودي من مكة إلى الرياض"... فما الذي يوجد لديه حتى يخسر هذا الشخص مع 2 في المئة تأييداً شعبياً"؟ ونصل في شهر القرارات والمتغيرات في القضايا المفصلية والجوهرية إلى القمة العربية التي ستعقد في الرياض حيث تتجه الآمال العربية العريضة إليها نظراً لدقة وحساسيات الظروف التي تنعقد فيها. والواضح أن المملكة العربية السعودية لا تريد هذه القمة كسائر القمم الروتينية، بل تريدها بداية لعمل عربي مشترك ينقذ الأمة من المخاطر الكثيرة التي تتهددها. لكن استعداد المضيف يجب أن يقابله استعداد آخر من جانب المشاركين من الزعماء العرب. حتى لا يُقال أن العرب فوتوا فرصة مهدورة من جديد. وحتى لا يبقى التهديد من المخاطر التي تواجه المنطقة من نوع القنابل الصوتية التي تحدث الجلبة والضوضاء لكنها لا تفيد في بلوغ الحلول الايجابية. ومن بيروت إلى طهران مروراً بدمشقوالقاهرةوبغدادوفلسطين والأزمات التي تعصف في كل مكان ما بطن منها وما ظهر يهدد بأوخم العواقب. لذا يجب التحرك الايجابي والسريع حتى لا يضيع العرب فرصة جديدة قد لا تتكرر في المستقبل القريب لوضع حد للتدهور الخطير الماثل أمام الجميع الذي لن يوفر أحداً في حال استعار المزيد من الحروب والنيران. مطلوب سقوط الأنانيات العربية، والسياسات الفردية، والارتقاء إلى مستوى حراجة وخطورة المرحلة وإلا سيلقى المقصرون عقابهم في هذه الدنيا وفي الآخرة بتهمة التقصير بحق البلاد والعباد والتخاذل في مواجهة الانهيار الكبير. * كاتب لبناني