قمة أو لا قمة، ان الدول العربية مطالبة بتصور عربي لنوعية المساهمة في مواضيع فلسطينوالعراق والارهاب والاصلاح، وان الهيئات العربية، خصوصاً النقابات المهنية مطالبة بالكف عن الازدواجية. فبدلاً من هذا الجهد المضني المنصب على معالجة مكان عقد القمة، ربما يكون أفضل للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ان يقفز على الفذلكة اللبنانية والبدع السورية والبهلوانية الليبية ويعمل على ثلاثة محاور رئيسية هي: أولاً، حشد وفد من القادة العرب ليتوجهوا معه الى بغداد ليَفهم ويُفهم بوضع النقاط على الحروف بمنتهى الوضوح والشفافية. ثانياً، التوجه برفقة وفد آخر من القيادات العربية الى دمشق لإبلاغها ان دعم السلطة الفلسطينية في هذا المنعطف يتعدى معادلات شخصية الرئيس ياسر عرفات، وان معطيات اليوم كما عضوية سورية في مجلس الأمن تتطلب الإقلاع عن الأسلوب والخطاب السياسيين والاعلاميين التقليديين، لمصلحة سورية والعرب على السواء. ثالثاً، اتخاذ الاجراءات العملية لتمكين المؤسسات المدنية، ولمطالبة الحكومات بها، مع مواجهة النقابات التي تتصرف على حساب المهنة، مثل النقابات الصحافية. حذار ذلك الحنين للعودة الى تثبيت الوضع الراهن المعهود في المنطقة العربية المتميز بالمهاترات والمزايدات والانقسامات والخلافات والخطابات السياسية المضللة. ومخطئ من يعتقد ان شبه "قطوع" مرّ بالبقعة العربية، ستتعافى منه من دون ان تضطر للتغيير والاصلاح. مبدئياً، ان القمة العربية يجب ان تُعقد، اينما كان، لأن التهرب من عقدها يعزز توجه العودة الى الو ضع الراهن السابق عندما وجدت عواصم عربية عدة خلاصاً لها من الاحراج في إجهاض انعقاد القمة. مسؤولية ليبيا عن اختفاء الإمام موسى الصدر يجب ألا تمر بلا محاسبة، كما على ليبيا وربما السلطات المصرية ايضاً، ان تقول لنا بصدق ما هي قصة اختفاء منصور الكيخيا، وان كان لا يزال حياً، فهو ايضاً رجل نبيل حمل راية حقوق الانسان العربي وكان قد خدم ليبيا كوزير خارجية وكسفير لها لدى الاممالمتحدة. أما ان يندلع الجدل والجهد في شأن انعقاد أو تأجيل القمة بناء على رغبة السيد نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني، بعدم مشاركة العقيد معمر القذافي في القمة العربية، فهذا أمر يعكس هشاشة الحكومة اللبنانية وفكر الحكومة السورية، ويطلق التساؤلات حول السياسات. على الصعيد اللبناني، ان مواقف السيد بري ليست بلا علاقة مع الموقف الاميركي الأخير من "حزب الله" باعتبارها منظمة "ارهابية"، ورسالة رئيس مجلس النواب في صميمها لها علاقة بالبعد الشيعي في لبنان وبرسالته الى الولاياتالمتحدة. ذلك ان افشال انعقاد القمة في بيروت يقطع الطريق على الضغوط الاميركية التي تطالب العرب جماعة بموقف أقل تمجيداً بما أحرزته مقاومة "حزب الله"، ان لم يكن بوقف اعتباره مقاومة وبدء تصنيفه ارهاباً. فانعقاد قمة عربية في بيروت تكف عن تمجيد مقاومة "حزب الله" يشكل نقلة نوعية في دور الشيعة في لبنان، كما في دور المنظمات التي تُصنف عربياً بأنها مقاومة. الحكومة اللبنانية، برؤسائها الثلاثة، ترى فائدة في انعقاد القمة في بيروت لأن ذلك يشكل درعاً للبنان من عمليات اميركية في حال اضطرت لها. وهي ترى في المقابل بانعقاد القمة في بيروت حرجاً سياسياً بشقيه: الشق المتعلق ب"حزب الله"، والشق المتعلق بياسر عرفات. ولأن سورية معنية بالشقين، تلجأ الأطراف اللبنانية الى نمط الفذلكة فيما تحاول دمشق ان تلعب أوراقها بتنسيق الأدوار. ودمشق محرجة، محرجة لأنها غير مستعدة، أو غير قادرة على الخروج من النمط التقليدي في نهجها وفكرها وسياساتها وتوجهاتها. وهي تدرك في الوقت ذاته ان لا مجال أمامها سوى الاستدراك قبل فوات الأوان. فإذا كانت عاصمة عربية تحت المحك والرقابة الدولية الآن، فإنها دمشق، الى جانب الرياض والقاهرة ولأسباب مختلفة، ودمشق اكثر من بغداد، ايضاً لأسباب مختلفة تماماً. ودمشق تدرك ذلك، لكنها لا تزال تحاول الالتفاف عليه. لكن فسحة الالتفاف تضيق، ومعها تضيق فسحة المغالاة اللبنانية التي ساهمت غالباً في تآكل الاحترام الدولي للبنان. واذا كان من وقت ملائم لصياغة علاقة سورية - لبنانية صحية، فإنه اليوم، ذلك أن التحديات والمخاطر على الاثنين تستلزم المصارحة والتكافؤ كي يخدم بعضهما الآخر آنياً وعلى المدى البعيد. لكن مسؤوليات دمشق، في هذا المنعطف، تتعدى بكثير اعتبارات لبنان. فهي تعطي انطباعاً دولياً بأنها في حال انتداب للبنان. وهي، كما أوضحت مواقفها، في حال اختلاف مع السلطة الفلسطينية ورئيسها وخياراتها. وهي، نتيجة الوضع العالمي الحالي، مضطرة للحسم قريباً بين صورة لها على نسق بلغاريا في السبعينات أو كوريا الشمالية اليوم وبين فرصة صياغة دور قيادي لها كدولة عصرية تجلس عضواً في مجلس الأمن الدولي وتؤثر في صنع السياسات العالمية نحو منطقة الشرق الأوسط. الرسالة العربية الى دمشق هي ان لا اعتراض على الاحتفاظ بلبنان عمقاً استراتيجياً لها أو انتداباً له، اما فلسطين فإن لا استعداد عربي في شأنها إما لجهة تقويض السلطة الفلسطينية وياسر عرفات أو لجهة خوض معركة تكييف المقاومة بما يسمح بأضواء ارهابية عليها. الرسالة الدولية لدمشق تتبنى الرسالة العربية وتضيف اليها توقعات بأن تكف الديبلوماسية السورية عن نمط العقائدية السياسية والتزمت الاقتصادي لتلعب دوراً دولياً واقعياً في مختلف الملفات، من فلسطين الى مكافحة الارهاب الى العراق، خصوصاً انها عضو في مجلس الأمن. دور الجامعة العربية، في هذا الشأن، ان تضع لدى القيادة السورية مواقف توضح لها التوجهات العربية وتساعدها على صقل مواقف تتجاوب معها. ودور العواصم العربية ان تقوم بذلك ثنائياً وجماعياً وعبر الجامعة بكل صدق ودعم واصرار. فمثل هذه القرارات يجب الا تنتظر انعقاد قمة عربية. كذلك الأمر في ما يتعلق بالعراق. كل ما يصدر عن البقعة العربية يصب في خانة التخوف من ضربة عسكرية للعراق أو في خانة الشتيمة لمثل هذه الضربة "المبيتة"، فيما الجامعة العربية والعواصم العربية لا تقوم بمسؤولياتها وتترك هامش تقرير مصير الموقف الدولي نحو العراق لدول مثل روسيا وتركيا أو لاجراءات اميركية - بريطانية. حتى القمة العربية المزمع عقدها في شهر آذار مارس لا تبدو جاهزة للتعاطي مع الملف العراقي، بينما القرارات الفاعلة نحو العراق تتوجه نحو الحزم الصيف المقبل بعد انتهاء المرحلة الراهنة من برنامج "النفط للغذاء". ملفت تغييب المساهمة العربية في صنع التوجهات نحو الملف العراقي في الوقت الذي تزداد اهمية ايران في هذا الملف كما تبدو تركيا اكثر مركزية في مصيره. رئيس الوزراء التركي بولند أجاويد سيزور واشنطن قريباً، وقد اشار الى بعثه رسالة الى الحكومة العراقية لاستنباض مواقفها من عودة لجنة التفتيش الدولية قبل محادثاته في واشنطن. تركيا قد تقاوم فكرة توجيه ضربة عسكرية للعراق لما فيها من انعكاسات سلبية عليها، من الفوضى على حدودها الشرقية وتدفق اللاجئين الى افرازاتها في ضائقة اقتصادية متفاقمة الى قيام دولة كردية في شمال العراق قد تمتد لاحقاً الى الأراضي التركية والايرانية، لكن تركيا لن ترفض تأييد قرار اميركي بعمليات عسكرية، إذ اأتُخذ، ذلك ان الشراكة الاميركية - التركية استراتيجية، تأتي قبل الاعتبارات الراهنة المريحة نسبياً لأنقرة والقائمة على التعايش مع النظام العراقي والاستفادة اقتصادياً من العلاقات التجارية والتحرك بحرية في شمال العراق الواقع عملياً تحت السيطرة التركية. مخاوف تركيا من حرب اميركية على العراق ضئيلة اذا قيست بمخاوف الجيرة العربية للعراق. فالدول الخليجية تخشى الفوضى والفراغ في السلطة نتيجة عمليات عسكرية، وهي اليوم تعارض حسم الوضع العراقي بإسقاط نظامه عسكرياً. محنة معظم الدول الخليجية العربية هي في رفضها الحسم العسكري من جهة ورفضها التعايش مع الرئيس العراقي صدام حسين من جهة اخرى. والملفت انها ترى في استمرار الوضع الراهن أفضل الخيارات لاعتقادها ان النظام العراقي يتآكل وسيزداد تآكلاً مع الزمن. ما تخشاه هو ان تقرر ادارة جورج بوش ان استمرار الوضع الراهن مرفوض قطعاً لا سيما وان الضغوط عليها تزداد لصياغة خطة واضحة بديلة لنهج ادارة بيل كلينتون الذي قام على الموافقة الضمنية على استمرار العقوبات والنظام في العراق. فالقائمون على حملة الضغط على ادارة بوش ناشطون وفاعلون واقتراحاتهم تشمل اجراءات عسكرية ليست فقط ضد العراق في داخله، وانما ايضاً اجراءات على نسق توجيه الصواريخ على محطات تحميل النفط العراقي في انابيب النفط العراقية - السورية. الإدارة الاميركية تدرس الخيارات وتتخذ الاستعدادات ومن ضمنها زيادة حجم القوات الجوية في المنطقة. فهي ليست على وشك توجيه ضربة عسكرية آنية للعراق، ما لم تفرض ظروف غير مرتقبة ذلك، لكنها لا تبدو مستعدة للتصديق على رغبات استمرار الوضع الراهن، خليجية كانت أو تركية أو عراقية. ولذلك، فإن قيام الأمين العام للجامعة العربية بمبادرة دعوة قادة عرب للذهاب معه الى بغداد أمر ضروري. ومثل هذه الزيارة يتطلب الخروج عن نمط "الاجماع العربي أو نقيضه، كما يتطلب منتهى المصارحة والشفافية". فالهدف من الزيارة ليس الإملاء على الحكومة العراقية أو تحويلها مظاهرة دعم سياسية لها. هدفها الايضاح ايضاح المواقف العراقية والمواقف الاميركية والمواقف العربية أمام الرأي العام العربي والعالمي. هدفها المساهمة في صنع القرارات بمسؤولية بدلاً من القبوع في انتظار اجراءات ثم التحسر عليها. فلا يكفي للحكومات أو للرأي العام أو للنقابات المهنية العربية مضغ الشعارات والهموم وحنين العودة الى نمط "السترة" المعهود خوفاً من جديد مجهول. واذا كان للوزير عمرو موسى ان ينقل الجامعة العربية الى صفحة جديدة، فإنه مضطر للإقدام مع الحكومات كما مع النقابات كما مع الرأي العام. ولأن بعض النقابات الصحافية يتجاوز المهنة ويتعدى عليها، كما فعل في لبنان مثلاً، فإن المهمة صعبة لكنها ضرورية. فهذا ليس زمن الاعتذار والاختباء والهروب الى الامام. انه زمن الإقدام والكف عن الحنين الى ماض تعيس.