أحيت الروائية اللبنانية المقيمة في باريس نجوى بركات محترفاً للكتابة الروائية الإبداعية في الجامعة الأميركية بيروت خلال ثلاثة أيام وألقت محاضرة عن تجربتها بدعوة من "برنامج أنيس المقدسي للآداب" والتقت طلاباً من مختلف الاختصاصات في حضور الدكتور أسعد خيرالله استاذ الادب العربي في الجامعة. ونجوى بركات من الأسماء البارزة في الحركة الروائية اللبنانية والعربية الجديدة. عاشت مأساة الحرب ثم هاجرت الى باريس لتكتب بجرأة أعمالاً مهمة، منها ما يستوحي الحرب ومنها يتناول هموم الفرد والجماعة في عالم قلق ومتغيّر، وروايتها"يا سلام"تعدّ فعلاً من أجمل الأعمال التي دارت حول المأساة اللبنانية، تبعاً لجرأتها وعمقها الانساني. استهلت بركات محاضرتها وعنوانها"في حسب ونسب سكان الروايات"أمام جمهور من الطلاب والمثقفين والكتّاب قائلة: "كلما تقدم بي العمر، ضاقت العبارة. فهل يكون اتساع الرؤية، كما قال النفري، هو المسؤول عن ضيقي ذاك؟ منذ عشرين عاما وأنا أحيا في باريس. غادرت بسبب الحرب. توقفت الحرب في لبنان ولم أعُد. اشتعلت حروب أخرى ولم أعد. أعود مرة يتيمة في كل عام كي أعد نفسي بضرورة العودة مرة أخرى بعد، إذ ربما ولعل وعسى. عشرون عاما والكتابة هي موطني الوحيد، واللغة داري. ستّ روايات وأبطالي كلهم من القتلة والمرتزقة والكذابين والمنافقين والفاسدين. وعوالمي قاتمة منتنة وعنيفة. وأبطالي ليسوا أبطالاً. إذ أين تكمن البطولة في شخصيات تودي بي دوماً إلى الشكّ. الشكّ بطلي، أجل. ألج بوابة الشك راضية، فعلى عتبتها ينتفي كل يقين. من التضاد والحيرة والعثرة والخلاف تبدأ الرواية. الرواية هي فنُ الشكّ بامتياز. هذه لازمة أردّدها في سرّي كلما باشرتُ مشروعاً روائياً، كلما خيّبتُ مطلبَ الآخرين باعتلاء منبر لإطلاق هتافات، لتوقيع عرائض، أو لإعلان مواقف تأييد واعتراض. خارج الرواية، لا صوت لي. خارج الكتابة، لا أملك ما أقول. في فضاء الكتابة، أنا مواطنة تملك كل الحقوق. عين على العالم وما يجرى فيه، والأخرى على مخيلتي لا تخضع لاعتبارات دخيلة ولا يسيئها أن تُعزَل أو أن تُرجَم لأنها غرّدت خارج السرب، سبحت عكس التيار. انحيازي الوحيد هو إلى شخصياتي، لا أتنكّر لها وإن بلغت أقصى الشر، أحميها كما يحمي الطير بيضه لأن بها خلاصي هي الرافضة كل تطويع والمتمردة على كل ما ينبغي الامتثال له.... بيد أن الرواية لا تحتمل رؤية أحادية وترويجاً لموقف إيديولوجي، الرواية لا تحبّ المفاضلة بين الخير والشر، الجميل والقبيح، العلو والحضيض. ذلك أنها لا تستوي في إلغاء الآخر، كائناً من كان. الرواية لا تنهض على نفي العدو والغريب، المتآمر أو المشاكس، أو على إبعاد السفّاح والمتعامِل والقامع والمخاتل والمرتدّ والخسيس. عالم الرواية لا يقوم سوى بأهله، وهؤلاء ليسوا دوماً أهلاً للتقدير والاحترام. إن التأسيس للشخصية الروائية يرتكز على إنشاء مسافة كافية منها بحيث لا يظهر خيرُها من خيرنا ككتّاب، شرّها من شرنا، ذكاؤها من ذكائنا وغباؤها من غبائنا.... هذا وتجدر الإشارة إلى أن غياب شخصيات مكتملة، بالغة إذا صحّ التعبير، عن جزء لا بأس به من أدبنا العربي، ناتج ربما من غيابنا جميعاً كأفراد وغيابٍ شبه كامل للفردية في مجتمعاتنا حيث لا يمتلك الرجل، ومن ورائه المرأة طبعاً، صوتاً خاصاً يعلو على صوت الجماعة أو يتساوى به. أنا لا أحكي هنا عن الشخصية كقيمة أدبية، وإنما كقيمة علمية، أي بصفتها عنصراً من عناصر"الوصفة"الروائية وشرطاً من شروط صحّة العمل الأدبي. وبما أننا ثقافة المكبوت والمضمر والمحظور، وبما أننا أبطال الإيحاء والإيماء والمواربة والاستعارة والإنشاء، تتبدّى الشخصيات في كمّ من رواياتنا غير مالكة لغتها، فهي إما بكْماء، قاصرة، معوّقة، أو أنّ لها صوتَ راويها الباحث عن كلام محتبس ممتنع أو ممنوع. فلتتدبّر الشخصياتُ أمرَها إذاً! لا متّسع لها وللروائي معاً! فإما هي وإما هو! والأغلب أن الغالب وللأسف، سيكون هو.... ولكن، إن سلّمنا بأن الشخصيات الروائية ليست من نسل كاتبها، أفلا يجرّنا ذلك إلى مواجهة سؤال يفرض ذاته من نوع: من يلد الشخصيات الروائية إذاً، أو كيف تولد أو ممّن أو ممَّ تراها تجيء؟ يميل البعض إلى الاعتقاد بأن في داخل كل شخصية روائية شيئاً من مؤلّفها. إذا كان هذا صحيحا فهل معناه أن في داخلي حماراً يحكي ونافذة تبصر وقاتلاً يمارس أبشع أنواع التعذيب؟ ميلان كونديرا، الروائي التشيكي المعروف، يقول في هذا الصدد:"لا تولد الشخصيات الروائية من جسد أمومي كما تولد الكائنات الحية، وإنما من موقف، من جملة، من استعارة...". وكم هذا صحيح ! أقلّه بالنسبة الي. وقد أضيف ما ليس بالضرورة من مقاصد كونديرا أو من مضامين جملته تلك. ثمة تململ أول، بذرة أولى تبدأ من عملية التلاقي أو التلاقح بين فكرة أو موقف من جهة، ومخيّلة من الجهة الأخرى، البذرة بما هي احتمال شخصية لم تولد بعد. كأنما ليس الروائي هو من يلد الشخصية. بل كأنها تولد من ذاتها، من مجموعة عوامل لا تتصّل حكماً فيما بينها، أو من أزمنة وأمكنة متباعدة غير متآلفة. الشخصية الروائية قد تبدأ تشكّلها من رائحة، يضاف إليها صوت، يرفده حدث، تلوّنه جملة، يؤطرها مشهد يستدعي خاطرة تصيب كالرصاص الطائش، من غير ميعاد. والشخصية الروائية لا تأتي دائماً مكتملة واضحة، بل أن المشروع الروائي نفسه قد لا يبدأ منها في كل الأحيان، وهي ربما وصلت متأخرة عليه، أي بعد اكتمال مناخ عام، أمكنة جغرافية، أسلوب في السرد ووقائع وأحداث. قد تصل الشخصية الروائية متأخرة عن المشروع الروائي أجل، لكنها ما أن تطأ أرض الرواية حتى تستولي على سلطة السرد. يصير الروائي عبدها، أسيرها، خادمها الأمين. إن طغى فعاندها، فسد السردُ واختلت أصوله. وإن خضع لها كلية، أخذته إلى حيث ما لا تحمد عقباه. وكالنطفة لا هوية لها ما لم تعرف اكتمالاً وفترة إنضاج. تمتلئ مخيلة الروائي بعشرات الشخصيات والأحداث بهدف بلورة فكرة وحيدة. وربما انقطع نفَسُه وانتهى العمل قبل أن تكتمل الفكرة تلك، فإذ هي تلقي بظلّها على رواية مقبلة وما يليها منتجة ما يعرّف بأنه ثلاثية. ولئلا يبدو كلامي ذا صلة مباشرة بتجربتي الذاتية، لا بد من تمرين أصعب ما يكون على روائي: العودة إلى اللحظة الأولى، اللحظة الأصلية التي تسبق ولادة شخصياته، لحظة غالباً ما يصعب القبض عليها إذ يختلط على تخومها الوعيُ باللاوعي، كأنما تتمتع كل رواية بلحظتها التأسيسية الخاصة، تماماً كما للبشرية سِفر تكوينها وللكون لحظة انبلاجه، لحظة"البينغ بانغ". ثم تتناول تجربتها من خلال رواياتها:"المحوّل"،"حياة وآلام حمد ابن سيلانة"،"باص الأوادم"،"يا سلام"،"لغة السر"، والروايات صادرة عن دار الآداب، بيروت.