تلويح وزير الخارجية السوري وليد المعلم بإمكان لجوء سورية إلى إقفال حدودها مع لبنان، في حال نشر قوّات دولية على الجانب اللبناني منها، ما زال يتفاعل في الأوساط الاقتصادية والسياسية في لبنان. وكان هذا الاحتمال قد ذكر أيضاً في وسائل إعلامية لبنانية كتحذير من عواقب إقرار المحكمة الدولية في إطار الفصل السابع من شرعة الأممالمتحدة. ومن الطبيعي أن يواجه احتمال إقفال الحدود بهذا الاهتمام، لأنه يلحق بالاقتصاد اللبناني خسائر فادحة فورية، ويتسبب على مدى زمني أطول بأضرار عميقة وپ"عضوية"للاقتصاد السوري نفسه. ولا يخفى أن إقفال الطرق البرّية بين سورية ولبنان يصيب بعض القطاعات الاقتصادية اللبنانية في الصميم، خصوصاً الصناعة والتجارة والنقل البرّي. فهو لا يمنع وصول الصادرات اللبنانية إلى السوق السورية فحسب، بل يحرمها أيضاً من بلوغ العراق والأردن وبلدان الخليج العربي. وعلى رغم هزال التجارة العربية البينية، فإن صادرات لبنان إلى الدول العربية تشكل شذوذاً عن القاعدة، إذ تتجاوز نصف صادراته الإجمالية. ويشكل العراق أكبر سوق للسلع الواردة من لبنان، إذ تمثل بحسب إحصاءات الجمارك لعام 2004 حوالى 15 في المئة من قيمتها الإجمالية، بينما تستقطب سورية 8.5 في المئة من السلع اللبنانية المسجلة، أي من دون السلع المهرّبة عبر الحدود. وإذا جمعنا صادرات لبنان إلى سورية وعبرها فهي تصل إلى 48 في المئة من صادرات لبنانالإجمالية، و90 في المئة من صادراته إلى الأسواق العربية. وهذه النسب ستتعطل كلياً إذا أقفلت الحدود، ما يشكل كارثة وطنية، ما لم تقم الحكومة اللبنانية بمبادرة سريعة يقتضيها الواجب، لتأمين طرق أخرى، مهما بلغت كلفتها، بغية إنقاذ القطاعات الاقتصادية المتضرّرة، إلى حين حلّ الأزمة مع سورية. إن جسامة هذه الخسائر تجعلنا نعتقد أن سورية لن تلجأ إلى هذا التدبير، لأنه يشكل عقاباً جماعياً قاسياً للشعب اللبناني، عبر إقفال مؤسّسات وتسريح عمّال وموظفين. والعقاب سيشمل اللبنانيين من دون تمييز، بما في ذلك الجماهير التي خرجت في السنتين الأخيرتين في تظاهرات مليونية لنصرة سورية وشكرها. ومن الطبيعي أن الحدود السورية هي الممر الإجباري الوحيد لمعظم الصادرات الزراعية. وعلى رغم أن حجم هذه الصادرات يقلّ عن 100 مليون دولار، وهي لا تمثل أكثر من خمسة في المئة من إجمالي صادرات لبنان، فمردودها يتوزع على نسبة كبيرة من اللبنانيين في الأرياف، لأن العائلات التي تعيش من الزراعة كبيرة العدد وقليلة الدخل. أما الصادرات الصناعية، فستتعرّض لمشكلة أكبر وأضخم، لأنها تشكل 95 في المئة من صادرات لبنان، ومن شأن إقفال الحدود السورية أن يصيبها بنكسة كبيرة، بعد أن حققت قفزات مهمّة كمية ونوعية في السنوات المنصرمة من العقد الحالي، وحققت نموّاً يزيد على 250 في المئة. إن الضرر من هذه الخطوة، التي نأمل عدم حدوثها، لن يبقى مقتصراً على الجانب اللبناني. فالاقتصاد يثبت صحّة شعار يتكرّر على المنابر السياسية، وهو أن سورية ولبنان توأمان، بالتالي، فأي ضرر يلحق بأحدهما لا بدّ من أن يصيب الآخر، عاجلاً أم آجلاً. فقد شكل لبنان دائماً، خصوصاً في العقود الأخيرة، متنفساً لا غنى عنه للاقتصاد السوري، وقدّم له خدمات جليلة كان ولا يزال في أشدّ الحاجة إليها. بعد الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد، ومنذ بداية التسعينات من القرن الماضي، على وجه الخوص، واجه الاقتصاد السوري نوعاً من التناقض الحادّ، الذي ساهم لبنان في تخفيف حدّته. فقد رسمت سورية لنفسها طموحات كبيرة على صعيد النموّ الاقتصادي، لم يمكن تحقيقها من دون مشاركة فاعلة للقطاع الخاص السوري. ولكن القطاع الخاص وجد نفسه مكبلاً بمعضلات أبرزها: تخلف النظام المصرفي، شح مصادر التمويل، الضوابط النقدية الصارمة، القيود القاسية لحركة رؤوس الأموال والحماية الجمركية. ساهم لبنان في حلّ هذه المشكلات من دون أن تضطر السلطات إلى تغيير الأنظمة، وتعريض الاستقرار النقدي والاجتماعي لهزات أرادت تفاديها. فساعد الاقتصاد على التمويل، ومكّنه من استيراد ما يحتاجه من معدّات وتقنيات حديثة، حتى تلك المحظور تصديرها إلى سورية من الغرب. وفوق ذلك، أمّن وظائف لمئات الآلاف من العمّال السوريين الذين شاركوا بعرق جبينهم في إعمار لبنان، ودعمت أجورهم ميزان المدفوعات السوري. ولا يخفى أن سورية تسجل توافداً سنوياً إلى سوق العمل يفوق طاقاتها الراهنة بسبب ارتفاع معدّل الولادات، ما دعا صندوق النقد الدولي إلى حض سورية على تحقيق معدّلات نموّ مرتفعة، حتى لا تصل البطالة إلى 20 في المئة في نهاية العقد. ولا شك في أن لبنان ما زال قادراً على المساعدة في تأمين المخارج، فيما تمثل سورية فضاء طبيعياً ومتنفساً ضرورياً للبنان واقتصاده. وعلى رغم متانة العلاقات الاقتصادية"الطبيعية والموضوعية"بين سورية ولبنان، عرف البلدان ثلاث أزمات حادّة في علاقاتهما الاقتصادية. فعام 1948، ونتيجة الخلاف حول الاتفاق النقدي مع فرنسا، أنهى لبنان وحدته النقدية مع سورية، وأعلنت الحكومة من جانب واحد أن الليرة اللبنانية هي العملة الوحيدة ذات القوّة الإبرائية في البلاد. وعام 1950، أعلنت الحكومة السورية برئاسة المرحوم خالد العظم القطيعة الاقتصادية مع لبنان، وأنهت الوحدة الجمركية بين البلدين، بسبب تنامي القدرة التنافسية للاقتصاد اللبناني بخياراته الليبرالية. وعام 1973، أقفلت سورية حدودها مع لبنان كردّ فعل على الأحداث التي وقعت بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية. وإذا كانت أزمة عام 1973 عابرة، لأنها مجرد ردّ فعل على ظرف سياسي طارئ، فإن أزمتي عامي 1948 و1950 أثرتا تأثيراً كبيراً في علاقات البلدين، ورسمت لكل منهما مساراً اقتصادياً مستقلاً، على رغم متانة الروابط ومنطق الجوار. فإلى أي نوع من الأزمات نتجّه إذا أقفلت الحدود؟ إن الجواب يتوقف على المدى الزمني لأية أزمة. وأفضل الخيارات هو ألا تقفل الحدود، ولا يطول عمر الخلافات. * خبير مالي لبناني