برزت على سطح العلاقات اللبنانية - السورية مع نهاية القرن العشرين انتقادات من فعاليات اقتصادية سورية تتعلق بمزاحمة الانتاج الزراعي المستورد والمهرب بين البلدين بعدما أقدمت الحكومة اللبنانية على خفض الرسوم الجمركية بشكل يفوق معدلات الاعفاءات المتفق عليها بين البلدين. وتبين احصاءات التبادل التجاري بين البلدين الى ان نسبة الجمارك على المواد الأولية التي تستوردها سورية تبلغ سبعة في المئة في حين باتت صفراً بالنسبة للمواد الأولية التي يستوردها لبنان. هذه الانتقادات لا تشكل أزمة في علاقات البلدين باعتبارها سحابة صيف عارضة، اذا قورنت مع الخلافات العميقة في القرن الماضي والتي هزت صميم علاقاتهما فتبادلا في شأنها مذكرات وتهديدات من قبل رؤساء وزارات سورية ولبنان وبالتحديد بين الرئيسين خالد العظم ورياض الصلح وأدى الأمر الى انفصال جمركي أثر في الجو الأخوي الذي لازم البلدين اكثر من ربع قرن. لمحة تاريخية وقبل الحديث عن التفاعلات السياسية التي طرأت على العلاقات السورية - اللبنانية في العقد الماضي لا بد من تقديم لمحة تاريخية عن العلاقات الاقتصادية بين البلدين. فمع دخول الجيوش البريطانية والفرنسية عام 1918 مع الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل الأول بن الحسين المنطقة، قررت سلطات الانتداب الفرنسي إبقاء الوضع الاقتصادي في لبنان وسورية على حاله واستبدل النقد المصري بنقد جديد سمي النقد السوري، وربط بالفرنك الفرنسي. واوجدت الحكومة السورية عندما تم استقلال الوطن السوري والمناداة بالأمير فيصل الأول ملكاً عليها "الدينار الذهبي" بديلاً عن النقد المصري. وكانت كمية الدنانير المسكوكة محدودة جداً، ولم توضع في التداول، ولا تزال محفوظة في المتحف الوطني في دمشق. وعندما احتلت القوات الفرنسية الأراضي السورية عام 1920 بعد معركة ميسلون، فرضت سلطات الاحتلال تجزئة الأراضي السورية الى دويلات، وعلى رغم ذلك ابقت الوحدة الاقتصادية بين الدول المجزأة من سورية وبين لبنان وفرضت التعامل بالليرة السورية، وتم توحيد دوائر الجمارك السورية واللبنانية الى جانب الوحدة الاقتصادية. وعندما حصلت كل من سورية ولبنان على الاستقلال الفعلي اجتمع رئيسا الوزارة السورية سعدالله الجابري واللبناني رياض الصلح عام 1943 في مدينة شتورا اللبنانية وتم الاتفاق على فصل الوحدة الاقتصادية بهدف ان يتمتع كل بلد باقتصاده حسب نظامه. ونص الاتفاق على بقاء المصالح المشتركة، وتقسيم اداراتها كمصالح الجمارك ومراقبة الشركات ذات الامتياز ومراقبة ادارة حصر التبلغ... الخ. وشكل مجلس أعلى مشترك لإدارتها واعداد التشريعات اللازمة وتحديد الموازنة وتعيين الموظفين واعداد مشاريع الاتفاقات التجارية والاقتصادية الدولية واقرارها من الحكومتين. واعتبر الاتفاق سورية ولبنان منطقة جمركية واحدة تنتقل البضائع ضمنها في حرية تامة معفاة من الرسوم الجمركية. كما تم الاتفاق على ان تخصص واردات الجمارك لدفع نفقات ادارة المصالح المشتركة ومن ثم يقسم الباقي بين البلدين بنسبة 56 في المئة لسورية و44 في المئة للبنان. وبعد تأليف حكومتين وطنيتين في بيروتودمشق وانتخاب مجلس نيابي دستوري في كل منهما وانتخاب بشارة الخوري رئيساً للبنان وشكري القوتلي رئيساً لسورية جدد الرئيس السوري مساعيه مع الرئيس اللبناني لوضع اتفاق اقتصادي شامل بمثابة وحدة اقتصادية متكاملة تخدم المصالح المشتركة في البلدين. لكن لبنان أصر على بقاء الوحدة الجمركية فقط. اذ كانت هذه الوحدة تحقق الفائدة التي تعود على لبنان سواء لجهة زيادة نسبة عدد الموظفين اللبنانيين في المصالح المشتركة وبلغت 90 في المئة. أما لجهة تخويل الجانب اللبناني تمثيل الشركات العالمية ومنها شركات المستحضرات والمواد الطبية الكيماوية والكماليات وأدوات التجميل، واستيراد السيارات والتبغ والتنباك... الخ. وبقيت المديرية العامة للجمارك في عهدة موظف لبناني منذ قيام الوحدة الجمركية مطلع عام 1944 وحتى عام 1949. وفي 30 آذار مارس 1949 وقع أول انقلاب عسكري في سورية بقيادة الجنرال حسني الزعيم قائد الجيش السوري، وتغيرت الاحوال السياسية في سورية، وطرأ على العلاقات مع لبنان أزمات وتهديدات باغلاق الحدود بين البلدين. وتولى منصب وزارة المال والاقتصاد في سورية في العهد الانقلابي السيد حسن جبارة وحاول الوزير بدعم من قائد الحركة الانقلابية الضغط على الجانب اللبناني للقبول بالمقترحات السورية بشأن الحالة الاقتصادية، فأرسل الوزير السوري مذكرة الى نظيره اللبناني فيليب تقلا في الخامس من حزيران يونيو 1949 يقترح فيها على الحكومة اللبنانية ايجاد وحدة اقتصادية مع سورية مشيراً الى ان جميع الحلول الموقتة التي قبلتها سورية حتى الآن لم تكن مبنية على أسس عادلة ولا يبررها سوى حرصها الشديد على استمرار التعاون بين البلدين، وان الوقائع اظهرت تعذر امكان تحقيق هذه الغاية، لذلك ترغب سورية في الحد من الاستيراد ضمن منهاج موحد بهدف ايجاد توازن صحيح في ميزان المدفوعات والى حماية انتاج البلدين الصناعي والزراعي والمحافظة على ثروتهما، فيما يقابل ذلك في لبنان سياسة الاستيراد الحر حتى المواد الكمالية لتوسيع أفق التجارة. وأمام هذه التطورات شهدت العلاقات التي كانت أخوية بين الشعبين لعقود عدة، تطورات مفاجئة لم تكن في الحسبان، زالت خلالها لغة المحبة الاخوية بين سكان البلدين. واغلق حسني الزعيم حدود سورية مع لبنان وتبادل الاتهامات مع المسؤولين اللبنانيين بسبب موقف الصحافة اللبنانية من الانقلاب السوري. وأمام هذا الموقف السوري اجرى وزير الاقتصاد الوطني ووزير المال بالوكالة اللبناني فيليب تقلا اتصالاً هاتفياً بنظيره السوري حسن جبارة وتم الاتفاق على عقد اجتماع مشترك في مصيف بلودان تم فيه وضع اتفاق موقت ينص على 12 مادة لحل المشاكل المعلقة باعتبار ان الحل النهائي للعلاقات الاقتصادية يستغرق وقتاً طويلاً ويستلزم دروساً واحصاءات غير متوافرة. ونص الاتفاق على اخضاع كميات القمح والشعير ومشتقاتهما المستوردة الى لبنان لرسم جمركي قدره 50 في المئة. وتستثنى من هذا الرسم كميات القمح والشعير والدقيق التي تستوردها الحكومة اللبنانية نفسها أو لحسابها لإعاشة الشعب اللبناني، وتتعهد الحكومة السورية بإبقاء نقل القمح والشعير ومشتقاتهما الى لبنان حراً من كل قيد أو رسم. والحكومة اللبنانية تمنع من جهتها تصدير القمح الى خارج حدود الوحدة الجمركية بين لبنان وسورية بعدما حصرت الحكومة السورية نفسها تصدير القمح الى خارج سورية. وخول الاتفاق كلا الحكومتين اعادة النظر في جدول الرسوم الداخلية التي تستوفيها بعد توحيدها، مرة كل ستة اشهر على الأقل. ونص على اتخاذ تدابير مشتركة لإزالة الفروق الموجودة بين النقدين السوري واللبناني والقيام بدراسة عميقة لوضع مشروع بالحلول العملية لتحقيق الغاية المطلوبة. انقلاب الشيشكلي في عهد الانقلاب السوري الثالث بقيادة العقيد أديب الشيشكلي تولى خالد العظم منصب رئاسة الوزارة السورية للمرة الثانية الى جانب توليه وزارة الخارجية. وفي عهده تولى وزير المال عبدالرحمن العظم الاتصالات مع نظيره اللبناني حول العلاقات الاقتصادية المشتركة، ولكن لم يتم الاتفاق على قرار معين مع الجانب اللبناني. وفي الثامن من كانون الأول ديسمبر 1949، قرر مجلس الوزراء السوري منع شحن القمح السوري ومشتقاته الى لبنان كما نص عليه الاتفاق الموقع من البلدين في الثامن من تموز يوليو 1949. ومن وجهة نظر سورية اتخذ القرار لوجود مبررات وخلافات نقدية نص عليها الملحق التابع للاتفاقية النقدية الخاصة والتي تزيد على 44 مليون ليرة سورية والمستحقة على الجانب اللبناني. وفي العاشر من كانون الأول تلقى خالد العظم بصفته وزيراً للخارجية مذكرة من وزير خارجية لبنان فيليب تقلا يحتج فيها على منع شحن القمح السوري الى الأراضي اللبنانية، معتبرة الاجراء مخالفاً لروابط الجوار وتداخل المصالح ووحدة الاهداف. وفي ضوء المذكرة اللبنانية، دعا وزير الاقتصاد السوري معروف الدواليبي الى مؤتمر اقتصادي خرج بخيارين: اما وحدة جمركية واقتصادية ونقدية فورية بين البلدين، واما انفصال عاجل. وبعث العظم بمذكرة جوابية عاجلة خير فيها لبنان بين قبول الوحدة الاقتصادية الشاملة وبين الانفصال الجمركي. وبعد اسبوع واحد وصلت مذكرة لبنانية جوابية من الرئيس رياض الصلح تتضمن أسف الحكومة اللبنانية لعدم استطاعتها قبول مضمون المذكرة السورية، مع رجاء لبنان ان لا تنقطع الصلات بين البلدين الشقيقين، بل محاولة الوصول الى حل وسط يحفظ مصلحتهما. الانفصال الجمركي وفور تلقي العظم جواب الصلح دعا مجلس الوزراء لإقرار التدابير الواجب اتخاذها لحماية النقد السوري، وقرر المجلس فوراً: 1- تطبيق أنظمة القطع على العمليات التجارية بين سورية ولبنان وعدم السماح للاشخاص المسافرين الى لبنان أو القادمين منه بأن يخرجوا أو يدخلوا اكثر من خمسين ليرة سورية من النقد السوري، ومنع نقل البضائع من لبنان الى سورية باستثناء بضائع الترانزيت والبضائع المعفاة من الجمارك والمحروقات، واقامة مراكز جمركية ومراكز مراقبة على الحدود السورية، ومنع سفر السوريين إلا بإجازة عند الضرورة. وأصدر المجلس مرسوماً تشريعياً بتاريخ 14/3/1950 بإصدار مصلحة الجمارك السورية مديرية عامة ذات استقلال مالي ترتبط بوزارة المال، واحداث ادارة حصر التبغ والتنباك تابعة لوزارة المال، وادارة لمراقبة شركة الخطوط الحديد وجوية بإشراف وزارة الاشغال العامة. وعهد الى وزارة المال تصفية المصالح المشتركة السورية - اللبنانية وتقسيم موجوداتها بين البلدين. أحدث الانفصال الجمركي هزة كبيرة في الاسواق اللبنانية فارتفعت المواد الغذائية والزراعية التي تستورد من سورية. وشهدت مدينة طرابلس عاصمة الشمال تظاهرة كبرى مؤيدة للوحدة الاقتصادية مع سورية. وأوقف اصحاب الشاحنات اللبنانية سياراتهم وهي مملوءة بالمواد المختلفة التي تصدر الى سورية عادة عن طريق حمص، أمام مبنى المحافظة واضربت المدينة احتجاجاً على الموقف اللبناني واطلقت سلطات الأمن الرصاص لفض الاضراب. وفي اعتقادنا ان هناك أسباباً خفية حملت المفاوض السوري منذ عام 1949 على تقرير الانفصال الجمركي. اذ كانت الجهات اللبنانية تدعي بقوة النقد اللبناني وتنبأت بعد الانفصال الذي اتخذه خالف العظم ان النقد السوري خائر متداع، لكن الأيام أثبتت العكس، فإذا بالنقد اللبناني بعد القطيعة يفقد 20 في المئة من قوته الشرائية، ويرتفع النقد السوري اكثر من 20 في المئة. وفي الواقع، تعرض النقد السوري بعد عام 1946 الى موجة تدنٍ عن النقد اللبناني لأسباب عدة أهمها: 1- حاجة الجيش السوري الفتي من الأسلحة، فعقدت وزارة الدفاع صفقات مع عدد من الدول الاجنبية، وكانت قيمة العقود تدفع بالقطع الاجنبي، وعندها اضطرت وزارة المال لشراء تلك العملات الاجنبية بالنقد السوري من الاسواق الحرة. 2- كانت الحكومة السورية تدفع قيمة الزيوت المستوردة من شركة مصفاة طرابلس والشركات الاجنبية بالجنيه الاسترليني والدولار الاميركي. 3- قدرت الاموال التي كان ينفقها السوريون في لبنان بخمسين مليون ليرة سورية سنوياً، اذ اعتاد السوريون على الاكثار من السفر الى لبنان للاصطياف أو النزهة أو لشراء حاجاتهم من الاسواق اللبنانية، ما كان يعود على لبنان بهذه المبالغ، لذلك كان تحديد حركة سفر السوريين الى لبنان من المطالب الرئيسية التي تتمسك بها الحكومة السورية بهدف منع تدهور العملة السورية. وكانت المحلات التجارية والمطاعم والفنادق اللبنانية بعد موقف الحكومة اللبنانية من النقد السوري ترفض قبول الليرة السورية من السوريين القادمين أو المصطافين الا بنسبة عالية من الفرق مع الليرة اللبنانية. ولهذا كان من الطبيعي ان تهبط قيمة النقد السوري في لبنان. 4- كان اصحاب محلات الصرافة في لبنان من التجار اليهود الذين انتقلوا من سورية الى لبنان بعد عام 1948 اثر الحرب العربية الأولى في فلسطين بعد تقسيم الأراضي العربية بين الفلسطينيين العرب واليهود، وبذلك انتقلت تجارة النقد التي كانوا يتعاطونها في سورية الى مدينة بيروت واخذوا يتحكمون بالعملات الاجنبية. 5- هناك عوامل اخرى منها تدخلات المؤسسات المالية لاستمرار الفرق بين النقدين السوري واللبناني. وأفاد الفرق بعض المرابين والصيارفة. وبعد القطيعة تبين من احصاء رسمي عن الميزان التجاري اللبناني مع نهاية عام 1950 وهو عام الانفصال ان لبنان استورد في ايلول سبتمبر وحده ما قيمته 21 مليون ليرة لبنانية وصدر ما قيمته أربعة ملايين ليرة فقط، فكان العجز التجاري في شهر واحد 17 مليون ليرة. وعن طريق الترانزيت الدولي عبر الأراضي اللبناني الى الأراضي السورية ما قيمته 33 مليون ليرة لم يستفيد منها لبنان، وأصبح هذا العجز يتكرر كل شهر ما أدى الى فقدان 20 في المئة من قوة النقد اللبناني، وارتفاع النقد السوري اكثر من 20 في المئة. وأضحت سورية تشتري من الخارج بضائع ومنتجات كانت تشتريها في السابق من لبنان، كما أصبح لبنان يشتري من الخارج كل المنتجات التي كان يشتريها من سورية، وإذا جمعت أثمان هذه الموارد الضخمة التي تذهب من جيوب السوري واللبناني الى جيب الاجنبي، فالنتيجة خسارة لكليهما معاً، لذلك تحولت القطيعة في عقد الخمسينات من القرن الماضي الى اخطاء متبادلة وتحولت الملايين من الليرات السورية واللبنانية غنيمة باردة للدول الغربية. * كاتب وصحافي عربي.