قدم الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة العرض الأول لعمله الجديد "أخبار مجنون ليلى" المأخوذ من نص الشاعر البحريني قاسم حداد في افتتاح مهرجان "ربيع الثقافة" الذي يستمر حتى منتصف نيسان أبريل المقبل. يمثل هذا العرض علامة بارزة في مسيرة خليفة الذي وصف العمل بالنقلة النوعية لما انطوى عليه من تحديات، اقترحت عليه التركيز على المخيلة الفنية على أكثر من مستوى. وقد عاد خليفة من جديد الى تأليف مقطوعات موسيقية تلبي أكثر من حاجة. وكانت موسيقى العرض مطالبة أولاً بتقديم تأويلها الخاص للنص الشعري وهو تأويل كانت له أبعاده التجريدية ومخاطره الآتيه من سعيه الى تقريب الجمهور من نص اشكالي يقدم تأويله الخاص لحكاية أسطوريه معروفة. وكان على الموسيقى أن تحفز طاقات التعبير الجسدي لدى الراقصين الذين قدموا رقصات تعبيرية مصاحبة صممتها نادرة عساف. وجاءت موسيقى العرض غنية بالايقاعات مقارنة ببقية أعماله وأكدت حضور الآلات الموسيقية مثل التشيلو والكمان والكلارينيت التي برزت في أعمال خليفة الاخيرة، وهي تجلت هذه المرة في معظم فترات العرض الذي قطع صاحبه وبحرفية عالية المسافة بين التجريد والتجسيد لينهي العرض باقتراح جديد يقوم على التحاور بين الأجناس الإبداعية والفنية المختلفة. في مساحات زمنية كبيرة من العرض الذي استغرق أكثر من ساعة ونصف ساعة أتيح للجمهور الاستمتاع بالموسيقى الخالصة من دون الخضوع لحضور الاجساد المصاحب، ومن دون الاستسلام كذلك لطاقة السحر الكامنة في صوت أميمة خليل التي قدمت مع يولا كرياكوس رواية ليلى العامرية عن قيس وتحكي:"عن العامري الذي أنكرته القبيلة/ عن دمه المستباح/ عن السيف الذي انتضاه من القلب". أما قاسم حداد فظهر في زاوية جانبية من المسرح وهو يقرأ مقاطع من حكاية"قيس"في حضور دال أكد"سلطة الشاعر"على النص الذي قال فيه:"سأقول عن قيس/ عن هوى يسكن النار/ عن شاعر صاغني في هواه/ عن اللون والاسم والرائحة. /عن الختم والفاتحة. وفي مقطع آخر:"سأقول عن ليلى/ عن العسل الذي يرتاح في غنج على الزند/ عن الرمانة الكسلى/ عن البدوية العينين والنارين والخد/ لها عندي/ مغامرة تؤجج شهوة الشعراء لو غنوا". والمعروف أن حداد كتب هذا النص آملاً في كتابة أسطورته الشخصية وبتحريض من الرسام ضياء العزاوي لصوغ ما يسميه"الميثيولوجيا الذاتية"لشاعر ينظر الى الحب في اللحظة الراهنة. لكن حداد لم يعرف أن هذا النص الاشكالي في تجربته الشعرية سيحظى بفرص استثنائية في توطيد علاقته مع الجمهور في المعنى العام، فهو قدم النص في صياغات مسرحية متعددة. إلا أن معالجة مارسيل وحدها هي التي وجدت نفسها في مهب الأزمة عندما سعى أحد نواب البرلمان البحريني الى التحريض على العرض بحجة أن فيه"ايحاءات جنسية"وهي اتهامات كان العرض أبعد ما يكون عنها فالرقصات التي صممتها نادرة عساف كانت تقليدية الى حد كبير غير قادرة على ابتكار تأويلها الخاص لا سيما الرقصات التي جمعت بين"ليلى"جويل شويري و"قيس"جوني بشارة وتفادت فيها الصدام مع الذائقة التقليدية للجمهور العام. ولم تفرط المعالجة الإخراجية في الاشارة الى أي نزعة تجريبية، وجاءت فقيرة تماماً على مستوى الإضاءة والسينوغرافيا في معظم فترات العرض ما يؤكد رغبة صنّاعه في تأكيد الحضور الحي المباشر لمارسيل خليفة وفرقته الموسيقية على المسرح، مع التركيز على بطولة النص الشعري الذي جاء العرض ليكشف منطلقات صاحبه في التعامل مع أسطورة"المجنون"كاقتراح يقوم على نقض أجوبة التاريخ القديم. منح العرض الجديد لنص حداد فرصة جديدة لقراءته وتأويله وأكد صدق رهاناته في التعاطي مع حكاية"المجنون"كحكاية متجددة يعاد انتاجها بما يحول"قيس وليلى"الى سبب للبوح عبر العصور. وبدا واضحاً حرص قاسم على أن يخلع عن المجنون هالة العذرية الفجّة لتضعه على الأرض في طريقة تمنح"ليلى"حرية المباهاة بحبيبها. لعل أهم ما في التجربة التي جمعت مارسيل خليفة وقاسم حداد أنها كشفت عن امكانات لا يمكن تفاديها لتحقيق حوار متكامل بين فنون القول والأداء والتعبير في طريقة لا استبداد فيها. هكذا لم يحرم أي فنان من التعبير عن ذاته بحرية مطلقة ما حرر العرض في النهاية من طابعه الكوريوغرافي فمرت أيقونه"الجسد"وهي العلامة الأكثر حضوراً على المسرح بتحولات انتهت الى أسلبتها كاملة لمصلحة بقية مفردات العرض وعلاماته النصية والبصرية والسمعية بما يتماهي مع معطيات خطابه النهائي الذي أراد له أصحابه أن يكون"احتفاء بالحب والجسد".