تنحو النصوص الشعرية الأخيرة التي يدأب الشاعر البحريني قاسم حداد على كتابتها منحى لغويّاً خاصاً ساعية الى التحرّر من أسر الأنواع الأدبيّة والنماذج الجاهزة، وتمسي النصوص تلك أشبه بالكتابة الحرّة التي يتوازى فيها الشعر والنثر، القصيدة واللاقصيدة، البلاغة والبداهة، الوعي والتداعي. إنّها نصوص تغامر داخل اللغة، تبدأ في لحظة الكتابة نفسها ولا تنتهي طبعاً في انتهائها. فهي تجرف القارىء الى حال لغوية شبه سديمية في أحيان من دون أن تسقطه في المجانية والعدم، "هل النص شهوة اللغة؟" يسأل الشاعر نفسه في مستهلّ ديوانه "فهرس المكابدات" ولا يحتاج سؤاله الى جواب. فالشعر يجيب بنفسه منتحلاً طابع الرثاء: رثاء الذات والعالم معاً. وفي غمرة المواقف الرثائية تلوح مسحة مأوسويّة طالما وسمت قصائد قاسم حداد معبّرة عن مآسيه الشخصية، الكبيرة والصغيرة، اليومية والقدرية: "قرأت دمي، مثلما يقرأ الليل وجه قاسم" يقول في إحدى قصائده. قاسم حداد ليس شاعراً بحرينياً ولا خليجياً فحسب. إنّما هو شاعر عربيّ في ما تعني هذه الصفة من انتماء الى وجدان اللغة والى مخزونها الداخلي وشحناتها والى جمالياتها الحيّة. شاعر شبه متنسك للشعر في أسئلته وقضاياه. وهو يملك منذ العام 1970، حين صدر ديوانه الأوّل "البشارة" حضوره الشعريّ الخاصّ. ودواوينه التي تربو على الأربعة عشر رسّخت هويته الشعرية ولغته. آخر ما أصدر حداد ديوانه "قبر قاسم" مرفقاً بكتابين آخرين هما "فهرس المكابدات" و"جنّة الأخطاء". واللافت أن الشعر في الكتب الثلاثة يستحيل الى فضاء لغوي قائم بذاته. يقول حداد عن هذا الفضاء الآسر في لقاء جمعنا في مقهى المجمّع الثقافي: "دائماً كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. فما يميز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، قدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الخلق في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك، حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكة تعشقه هو بالذات وأنه حرّ في هذه الحضرة لكي يمارس حريته معها بلا حدود. بهذا المعنى كنت أدخل في مغامرات اقتحام الحدود بين أنواع التعبير من جهة، ومن جهة أخرى أشعر بأن اللغة اضافة الى احساسي بمسؤولية حق الحرية هي ثروتي الشخصية التي لا تمنعني عنها سلطة ولا يشاركني فيها أحد، إلا القارىء الذي لا أعرفه. من هنا أعتقد أن المتعة التي كانت تمنحني إياها تلك "الشهوة" إذا صح التعبير، تضاعف طاقة المخيلة لحظة الكتابة، بحيث لا أكاد أرى في تخوم أشكال التعبير إلا آفاقاً مفتوحة وليس حدوداً. الآن، لم تعد مسألة النثر والشعر تشغلني، وليست هي ما يتوقف أمامه النص عندما يبدأ في التخلق. بالنسبة لي هذا الأمر يطرح أسئلة أشدّ عمقاً وجدة. لذلك فإنني أشعر بالقلق دائماً عندما أصادف شاعراً يشي بعدم الاهتمام، واللامبالاة باللغة، في ما يكتب. اللغة هي الأهم في النص كما في الحياة. انها أجمل الثروات وأخطرها كما قال شاعر لا يحضرني اسمه الآن. الشاعر لا يستطيع أن يتأكد ويؤكد للآخرين من قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة. وإن كان ثمّة مأخذ على بعض النصوص الشعرية ذات الهاجس التجريبيّ وهو وقوعها في ما يُسمّى "توالداً" لفظياً يفيض عبره المعنى ليصبح هذراً لفظياً متدفقاً فأن قاسم حداد يعتبر أن "الهذر مجرداً، هو فعل غير شعري. ولكن بوسع الشاعر الموهوب، وهو يمتلك المعرفة والخبرة، أن يجعل من صنيعه الشعري، مادة يحقق فيها درجة الهذيان الإبداعي الذي يأخذ النص الى لحظة الشعر. لا نستطيع أن نطلق أحكاماً عامة صدوراً عن محاولات تفشل هنا وتتعثر هناك وتنجح أحياناً. كل ما في الحياة يمكن أن يكون شعرياً إذا تناولته موهبة تعي ما تفعل. وهاجس التجريب ليس جديداً في حقل الإبداع، انه حق مشروع وجميل كلما تيسرت له الشروط الشعرية. حتى الهذيان لكي أميزه عن الهذر يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الذهاب الى الشعر. ألم يقل السابقون عن المهلهل أنه بالغ في الهذيان حتى قال شعراً. في ظني أن الشعر لا يتطور ولا تتبلور رؤاه ونصوصه إلا بحرية التجريب وإدراك جماليات اللغة وملامسة طاقاتها اللامحدودة في التعبير. نحن كائنات لغوية لا تتحقق إلما بما تنتجه من الألفاظ. هذه الألفاظة التي قد تصبح سلبية ليست في الشعر الراهن فحسب، ولكن في أي شعر على الإطلاق، إذا هي كفّت عن صدورها من حساسية شعرية واعية. اللغة هي خبرة الإنسانية كاملة ممتزجة بشخص محدد في لحظة محددة هي النص الآن". في كتابه "أخبار مجنون ليلى" الذي أنجزه مع الرسام ضياء العزاوي يستعيد حداد أسطورة الشاعر المجنون ويصوغها شعرياً معتمداً ما يشبه "التناص" كمنطلق أوّل. وإذا شخص المجنون يحضر عبر الشاعر نفسه الذي يكتب أسطورته. يقول حداد موضحاً كيفية استيحائه مجنون ليلى: "رأيت الى أسطورة مجنون ليلى بحرية الشاعر وشغف العاشق معاً. تحريض الصديق ضياء العزاوي كان محفزاً لأن أكتب أسطورتي الشخصية، أن أصوغ الميثولوجيا الذاتية لشاعر يرى الى الحب الآن. قبل أن أبدأ الكتابة عدت الى الجزء الخاص بمجنون ليلى في "الأغاني"، فوجدت كم وضعت من هوامش على روايات الأصفهاني قبل سنوات، كما لو أنني أطرح الأسئلة مبكراً على ذلك النص. كان الأصفهاني أحد أهم الذين بالغوا في وضع سيرة المجنون في مهب الشكوك التي تجعل من الحكاية ضرباً من الأسطورة. وهذا ما ضاعف حريتي في التعامل مع الموضوع. لم تعد تعنيني تلك الروايات التي تتناسل وهي تروي الأخبار عن المجنون. أذكر أنني شعرت بأن كل راوٍ كان يحكي قصته الخاصة عن قيس وليلى. فقد تحول قيس وليلى الى سبب للبوح عبر العصور. بهذا المعنى يجوز لي كشاعر أن لا أصدق تلك الروايات، بل أحكي الحكاية التي أعتقد بأنها تعبر عني الآن وهنا. وأعطاني "المجنون" أن أرى الى التجربة بوصفها موضوعاً قابلاً للتأويل. فرأيت الى التجربة من خلال ثلاثة أسئلة تتصل بحقيقتي الإنسانية كشاعر، وهي جوهر الإبداع دائماً: الشعر والحب والجنون. ولا يخلو من دلالة كون هذه العناصر الثلاثة هي من مكونات تجربة السرياليين الأوائل. والحق أنني انتبهت لهذه المصادفة الموضوعية - بحسب التعبير السريالي أيضاً - فيما بعد. يقوم النص "أخبار مجنون ليلى" على رؤية مختلفة لطبيعة العلاقة بين قيس وليلى، ويقوم على مساءلة معنى الجنون، هل هو جنون القلب أم جنون العقل، ويقوم خصوصاً على حقيقة النص الشعري الذي يجري تداوله منذ بداية الأسطورة، هل ثمة شخص محدد اسمه قيس كتب هذا الشعر، أم أن العاشق عبر العصور هو الذي يقترح نصاً هنا ونصاً هناك؟ ولعل في التفاوت الفني في النصوص المنسوبة لقيس يشي بأن أجواء لغوية تعبر عصوراً أدبية واضحة الملامح قد وصلت الينا، مما يغري بأن يضيف الشاعر الجديد دائماً نصه الخاص. وإذا جاز لي الزعم بأنني أعطيت "المجنون" شيئاً، فربما يتصل هذا بأنني خلعت عنه هالة العذرية الفجّة ووضعته "معنا" على أرض الحب الطبيعي ومنحت ليلى حرية المباهاة بحبيبها حتى في حضرة زوجها. ففي تقديري أن أحداً لا يقول هذا الشعر الجميل إلا إذا كان قد استذوق "قندة" الحب في الواقع وليس في التخيل. وهذا هو من حق الإنسان دائماً". الشعر والأنترنت بادر الشاعر قاسم حداد الى ادخال شعره الى "الانترنت" وأسس موقعاً للشعر العربي فيه أيضاً وحمل عنوان "جهة الشعر". وتجربته هذه هي من التجارب العربية الأولى في هذا الميدان. يتحدّث حداد عن هذه التجربة قائلاً: "ثمة ولع غامض شدني الى جهاز الكمبيوتر منذ منتصف الثمانينات، إذ فتح لي أفقاً اضافياً لم يكن متاحاً حتى تلك اللحظة. وحين تعرفت على الأنترنت شعرت بما يشبه المسافة الضوئية تخترقني معرفياً وروحياً، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار الدور الجوهري للمخيلة في فكرة الأنترنت ومن قبلها الكمبيوتر، فكل شيء في هذا الحقل ينشأ من طاقة الإنسان على التخيل والتعامل مع الأمر كما لو أنه عالم من الافتراض اللامحدود. لقد اقترحت عليّ تجربة الأنترنت عمقياً آفاقاً مضاعفة من الحرية والجمال يفضحان جلافة الواقع ومصادراته. حين أعمل، أحب أن أكون حراً، فهذا شرط يتيح لي التمتع بالفعل الذي أمارسه. وكلما اتسعت فسحة الحرية الذاتية شعرت بالحياة تقترب من شفافيتها، ربما لأنني أعتقد بأن كل ما يصنعه الشاعر ينبغي أن يكون شعراً أو شعرياً أو محرضاً على ذلك. من هنا أرى في فكرة الأنترنت ضرباً من الشعر حرية وجمالاً بوصفها فكرة تتصل بمستقبل لا يمكن تفاديه، خصوصاً إذا جاز لنا الاعتراف بأن الشعر هو ذهاب للمستقبل أكثر منه مراوحة في الواقع وحنيناً سطحياً للماضي. حين بدأت وضع الشعر العربي بمساعدة الأصدقاء في مؤسسة النديم لتقنية المعلومات شعرت بأنني أضع الشعر في مكانه، أضعه في تلك المسافة الغامضة التي يتقاطع فيها النص والضوء والصوت والصورة، وبدأت أتأمل ما يحدث مثل شخص يرقب حركة أحلامه في سديم شفيف من المخيلة. ومثل هذا التقاطع اللامتناهي والفاتن بين الأشكال هو من صميم نزوعي لتجاوز التخوم التقليدية لأشكال التعبير. انني أعمل كل هذا حتى الآن وحدي، في غرفة صغيرة مكتظة بالمكتبة وكائناتها، بين ما لا يحصى من مخلوقات المخيلة البشرية التي ظلت طوال الوقت معرضة لسبات مستمر لا ينتهي. فإذا بي أنظر الى تلك الكائنات والمخلوقات تستيقظ، نشيطة وتنتقل وتتصل بأبعد إنسان في أقاصي الفضاء الكوني، لتخلق نوعاً من الحوار الحميم، بهدوء فائق، وبلا ضجيج وبقدر لا محدود من الحرية التي لا تطالها سلطات العالم، وبدرجة من سرعة تشبه رفة هدب العين وهي تطلق شرارة الحب في القلب. عندما وضعت بعض مختارات المتنبي في المرحلة التجريبية الأولى، صادفت بيتاً له يقول: أحلماً نرى أم زماناً جديداً ام الخلق في شخص حيّ أعيدا لقد كنت أشعر بأن ثمة كهرباء حانية تنهر النص الشعري لكي يبدأ الحياة الأبدية هذه المرة. أقول أنني لا زلت أعمل كل ذلك وحدي". ويتحدث عن موقع "جهة الشعر" وعن محتوياته الشعرية قائلاً: "متصلاً بنزوع تجربتي الشعرية ولأسباب ثقافية أخرى أردت لجهة الشعر أن تُعنى بالشعر الحديث، القرن العشرين، خصوصاً بعد أن رأيت جهوداً أخرى تعمل في وضع الشعر العربي القديم على الأنترنت بصورة محترفة تليق بالتراث الشعري العربي، من بين أهمها "الموسوعة الشعرية" التي يعمل الجمع الثقافي في أبو ظبي على الانتهاء منها قريباً. بالنسبة لجهة الشعر ستكون التجربة الحديثة هي الاهتمام الرئيسي بشتى اجتهاداتها الإبداعية. وهذه ليست مهمة سهلة ولا هو عمل يمكن أن يقوم به شخص واحد. ماذا أفعل إذاً؟ في "جهة الشعر" أقسام ثلاثة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية الملف الثالث قيد الإنجاز، أطمح في من يتعاون معي من المتخصصين أدبياً في هاتين اللغتين. فعلى الزائر أن يختار منذ الوهلة الأولى اللغة التي يرغب في أن يقرأ بها المادة المتوفرة، خصوصاً وان الشرط المعرفي للأنترنت، كفكرة ثقافية، هو توفر النصوص بلغات تستجيب لمختلف الأجناس. وتقدم أكبر قدر من المعلومات وعدم الاقتصار على الأدب بوصفه نصوصاً خالية من التحليل والمعلومات والبعد المعرفي. أعتمد التعريف بشاعر واحد، يستمر حضوره لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر بصورة شاملة وباللغات الثلاث. ويجري العمل حالياً على ادخال معلومات أساسية عن الشعراء العرب المعاصرين من البلاد العربية وبمختلف اجتهاداتهم الإبداعية، مع نماذج من أشعارهم، نصوصاً وسيراً شخصية مصحوبة بالصور. ويجري العمل على تحقيق اتصال بين "جهة الشعر" وأهم الملاحق الثقافية الأسبوعية لبعض الجرائد العربية، وكذلك تحقيق اتصال الجهة بمراكز البحث والدراسات العربية والأجنبية والجامعات المعنية بالأدب والثقافة العربية. وثمة اهتمام رئيسي في "جهة الشعر" بالفنون التشكيلية حيث يوجد ملف بعنوان "كليم اللون" نستضيف فيه بين وقت وآخر فناناً عربياً يجري التعريف بتجربته باللغات الثلاث مع حوار عن تجربته ومعارضه. وأفكر جدياً في إنشاء ملف جديد عن الموسيقى العربية. في زمن يجري الكلام بشدّة عن موت الشعر وموت قارئه وعن انحسار خارطته يعمد قاسم حداد في نشره عبر الأنترنت! ترى هل الأمر مجرّد مغامرة فردية؟ ألم يصبح الشعر صنيعاً فردياً فيما الشاعر بدوره يتجه الى المزيد من العزلة؟ يقول حداد: "طوال الوقت كان الشعر صنيعاً فردياً، ودائماً كنت أعتقد بأن الشعر بوصفه إبداعاً هو أحد معطيات عزلة الشاعر الذهبية. ولم أكن أقول بغير ذلك. وإذا نحن قد تورطنا أحياناً بمقولات جماهيرية الشعر وعمومية الكتابة، فإن هذا لا يعني شيئاً بالنسبة للحقيقة. وهذا كله لم يدفعني أبداً الى الخضوع للأوهام التي راجت في السنوات الأخيرة وكرستها اجتهادات ثقافية تصدر عن مصدرين هما تجربة غير واضحة الملامح تأتي من لا مكان، وضخ من الصحافة الثقافية التي تقصر عن قراءة مادتين: النص والحياة. انني لا أفهم معنى أن يقال بموت الشعر أو موت القارىء، لا أفهم ذلك، خصوصاً إذا صدر من الشعراء أنفسهم. كيف يمكن أن يحدث ذلك والإنسان ما يزال موجوداً بكثافة في التجربة غير مسبوقة في التاريخ البشري. هل تقاس الأمور بمفهوم رواج المادة الاستهلاكي مثلاً؟ هل لمجرد أن القنوات الفضائية العربية تخلو من برنامج متحضر عن الشعر العربي؟ هل لأن الروح النقدي الذي يصدر منه الشعر والأفق الحر الذي يذهب اليه لا تطيق الأنظمة والسلطات العربية أن تجعله كائناً متاحاً للجميع كما تفعل مع أكثر أنواع الأغاني انحطاطاً؟ هل لأن فكرة التنوع وتعدد الأذواق لا تزال تضيق بمن يعمل على الكتابة الشعرية بالصورة التي لم تخطر على بال الخليل بن أحمد هناك ومسؤولي الثقافة العرب ضيقي الأفق هنا؟ هل لأنني كشاعر لا أقبل الخضوع لشرط وسائل الإعلام مفضلاً البقاء مع كثيرين مثلي في حرية الهامش طوال السنوات حتى لو كان على حساب وصول نصي الى أقرب قارىء يسكن في الدار المجاورة؟ لا أستطيع أن أقبل مثل هذه المصطلحات الموت هذه. أنا يائس من اليأس السائد، لكن نظرية الموت هذه لا تتصل بما أرى وأعمل، لأنها في نهاية التحليل تحقق هدفاً يسعى اليه الآخرون الذين لا يحبون لا الشعر ولا الشعراء، والذين يرغبون حقاً في موت الحياة من حولنا. الشعر الخليجي وإذا سألت قاسم حداد عن بعض الشعراء الخليجيين الذين خرجوا على سلطة "آباء الحداثة" وتمرّدوا على الأرث الشعري والبلاغة واللفظية متخطين سلطة الكتابة نفسها ومتجهين نحو المعادلات الشعرية اليومية ونحو قصيدة التفاصيل والقصيدة الواقعية... فهو يجيب: "تعبير "آباء الحداثة" يشي بنظرة قداسة لأشياء الحياة، وهو يجعلنا، خصوصاً، أمام بنية من الكهنوت والبطاركة التي يتوجب على المرء أن يخضع لأوهامها، لكي يشار الى خروجه عن هذه السلطة أو خضوعه لها. انني لا أرى الأمر بهذا الشكل. ان حركة الحياة تستدعي النظر الى كل التحولات باعتبارها الحيوية المتوقعة دائماً. لا أحد يزعم على رغم كل وسائل التكريس الإعلامي أن ثمة تجربة قادرة على تثبيت اللحظة الشعرية في العالم. للجميع حرية الاجتهاد ما دام شرط الإبداع والمعرفة متوفراً. ولست مع وهم أن تجربة أو اجتهاداً ينفي الاجتهاد أو التجربة الأخرى. في الحياة متسع للجميع، بل أن الحياة تتطلب هذا التنوع اللانهائي في طرائق التعبير وأشكال الكتابة، قصيدة التفاصيل، القصيدة الواقعية، النص المفتوح... إلخ. وهذا بالطبع أمر يختلف عن مسألة الاعتراف بتجارب المبدعين السابقين في هذا الحقل أو ذاك. وأشعر أن من أخلاقية المبدع أن يعترف بمعلميه وأساتذته وآبائه خصوصاً، وله أن يبجلهم أيضاً، أنه سلوك حضاري حين لا يتحول الى تقديس النص. انها أجمل الصفات التي يتميز بها المبدع، حتى أن المتصوفة كانوا يضعون هذه الخصلة شرطاً أمام التلاميذ لكي يكتسبوا طبيعة الخالق. أقول هذا استطراداً لكي أشير الى ظاهرة تستوقفني في السنوات الأخيرة في الوسط الثقافي العربي، وخصوصاً في مجال الشعر. فقد لاحظت أن ثمة بالغة في التنكر للجيل الأسبق ومحاولة نفيه، ظاهرة تتفشى في أوساط الأجيال الجديدة، الى درجة لا تليق بطبيعة المعرفة وأخلاقيات المبدع. ويخالجني أحياناً شعور بأننا سنكون آخر الأجيال الشعرية العربية التي تعترف بأساتذتها وبالتجارب المهمة التي سبقتها. وهذا الاعتراف لا ينفي حريتي في طرح اختلافي مع تلك التجارب ومحاورتها ومحاولة تجاوزها على الصعيد الفني أيضاً. بهذا المعنى ينبغي أن نحسن التعاطي مع مفهوم التمرد الذي لا ينبغي أن يتوقف عند المبدع. وعندما يتحول الإرث اللغوي والفني الى حاجب يمنع رؤيتي الخاصة وبالتالي منع القارىء من التعرف الى ما تشير اليه تجربتي المختلفة عن تجربة الجيل السابق ورؤاه، عندها لا بد لي من وضع ذلك الأرث وتلك البلاغة في المكان الذي يليق بها تاريخياً، وخلع القداسة عنها، والالتفات الجاد نحو ما يستجيب مع حساسيتي الجديدة. وما يحدث في الشعر المكتوب في الخليج هو ذاته ما يحدث في الشعر العربي عموماً. المشهد يكون مكتملاً وأكثر وضوحاً عندما نرى اليه في الأفق العربي".