إجتذب الاهتمام التقرير التقويمي الرابع للهيئة الحكومية العالمية حول التغير المناخي أي بي سي سي، وهي هيئة منضوية تحت لواء منظمة الأممالمتحدة تندرج في عضويتها 113 دولة وتُعتبر مسؤولة عن دراسة السياسات والإجراءات المطلوبة للتعامل مع ظاهرة التغير المناخي المتمثلة بارتفاع حرارة جو الأرض ومتابعتها واقتراحها. ويعتبر هذا التقرير، الذي جاء تحت عنوان"التغير المناخي 2007: الأساس العلمي"، بمثابة ملخص لصناع القرار في العالم عن نتائج التقويم الرابع الذي ساهم بإجرائه ما يفوق ألفي عالم ومتخصص من حول العالم. وهو التقرير الأول من ثلاثة تقارير ستصدر هذه السنة، ويُتوقع ان يتناول التقريران الآخران تأثيرات التغير المناخي وما يمكن العمل في شأنه. ويعود الاهتمام الكبير والواسع الذي رافق صدور هذا التقرير من جانب غالبية مراكز القرار في العالم ومن وسائل الإعلام المختلفة، خصوصاً في الدول المتقدمة، أنه يربط، للمرة الأولى وعلى قدر عال من اليقين، بين ارتفاع حرارة جو الأرض، خصوصاً منذ بداية الثورة الصناعية قبل نحو 250 سنة، وبين النشاط الإنساني المولد لانبعاث الغازات الدفيئة مثل غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وغيرهما، علماً ان عمليات التقويم السابقة لم تتمكن من استبعاد احتمال ان تكون هذه الظاهرة نتيجة دورة مناخية طبيعية لا علاقة لها بنشاط الإنسان على كوكب الأرض. وجاء في التقرير، ان ارتفاع حرارة جو الأرض بين اثنين و5.4 درجة مئوية نهاية القرن الحالي أمر عالي الاحتمال، وأن ارتفاعاً بمقدار ست درجات أو أكثر لا يجدر استبعاده. ومن النتائج المتوقعة لهذا التغير في المناخ ازدياد مستوى الأمواج الساحلية ودوامها وتكررها، وازدياد حدة العواصف الاستوائية والأعاصير مع ازدياد الأمطار والفيضانات المصاحبة لها، وخلو مياه محيط القطب الشمالي من الجليد خلال الصيف، وارتفاع مستوى مياه المحيطات بنحو 0.43 متر في المتوسط بحلول نهاية القرن الحالي، إضافة إلى الذوبان المستمر لجليد القطب الشمالي. أما على صعيد المناطق، فيتوقع للشواطئ الأوروبية المطلة على المتوسط ان تصبح عالية الحرارة، وأن تصبح جبال الألب مقصداً للاصطياف، بينما يُتوقع امتداد فصول الزراعة في المناطق المعتدلة المناخ، وازدياد القحل في المناطق شبه الصحراوية في أفريقيا وجنوب آسيا. وفي ضوء هذه النتائج الفائقة التأثير، قد يصبح التغير المناخي المحدد الأول والأهم للعلاقات الدولية ولمستقبل أسواق الطاقة ومكوناتها، والبند الأبرز على جدول أعمال التنمية الاقتصادية والاجتماعية بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية. من جهة أخرى، فإن مدى التغير المناخي وتأثيره وقدرة البشرية على التعامل مع التحديات التي سيفرضها عليها يعتمد في شكل كبير على طبيعة النظام العالمي الذي سينشأ خلال السنوات والعقود المقبلة. وفي هذا الإطار، أبرز التقرير الارتفاع المحتمل في حرارة الجو ومستوى مياه المحيطات بناء لسيناريوات تفترض مسارات مختلفة ولكن ممكنة للنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين. ويتضح الدور الأساسي الذي قد تلعبه التكنولوجيا في خفض انبعاثات غازات الدفيئة عبر إتاحة الاستعمالات النظيفة للطاقة، وتطوير الطاقة النظيفة، وزيادة كفاءة العمليات الإنتاجية، والتحول السريع نحو اقتصاد المعرفة. ويتكامل هذا التطور في التكنولوجيا مع نمو اقتصادي سريع، وتراجع في عدد سكان العالم بعد وصوله للذروة حول منتصف هذا القرن، يصاحبه تقلص في التباين بين مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي بين مناطق العالم، وتلاقٍ في مستويات دخل الفرد بينها. كل ذلك في إطار من التفاعل الحضاري والثقافي والاجتماعي بين الأمم والشعوب. والعالم العربي، بطبيعة الحال، معني جداً بما جاء في التقرير، ليس بتأثيرات التغير المناخي البيئية والاقتصادية على المنطقة أو بما سيترتب عليه من التزامات قطرية وإقليمية ودولية في إطار التعامل مع هذه الظاهرة فحسب، بل أيضاً لأن العديد من دول المنطقة دول منتجة للنفط والغاز الطبيعي وصاحبة احتياطات كبيرة منهما. وهاتان المادتان إضافة إلى الفحم من المصادر المولدة للغازات الدفيئة عند الاستعمال. ونظراً للموضوعية العلمية التي اتسم بها التقرير، خصوصاً في عرضه المتوازن للبدائل أو المسارات الممكن اعتمادها للتعامل مع ظاهرة التغير المناخي التي، وإن لم تستثنِ المسار الذي يفترض التخلص الكامل من الوقود الأحفوري، إلا أنها قدمت سيناريوات أخرى تبقي على دور الوقود الأحفوري في أسواق الطاقة المستقبلية ولكن شرط الاستعمال النظيف لها، أي تنقيتها من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون عند الاستعمال. وهكذا، من المصلحة الوطنية والقومية للعالم العربي ان يتعامل بإيجابية مع هذا التقرير وأن يتبنى توجهاته ويلتزم عملياً بها، خصوصاً تلك المتعلقة ببناء نظام عالمي جديد يتسم بالعدالة والتواصل بين الشعوب والحضارات ويحقق التلاقي في مستوى دخل الفرد بين المناطق والأقاليم. ومن المهم أيضاً للدول العربية ان ترفع مستوى مساهمتها في أعمال الهيئة الحكومية للتغير المناخي، خصوصاً في غياب أي اسم عربي واحد بين أسماء معدي هذا التقرير. وعليها كذلك ان تطور إمكاناتها العلمية والتكنولوجيا في مجالات البيئة والمناخ وغيرهما، والمبادرة في تطوير وتبني الاستعمالات النظيفة للطاقة الأحفورية، خصوصاً للنفط والغاز الطبيعي، والمساهمة في جهود البحث العلمي والتطوير في هذا المجال. وفي ضوء تقاطع المصالح في هذا المجال بين الدول العربية المنتجة للطاقة الأحفورية وبين الدول العديدة الأخرى المنتجة لها، فإن تعزيز التعاون والمشاركة وبناء التحالفات معها في المحافل الدولية والإقليمية، سيسهم في شكل فاعل في المحافظة على مستقبل هذه الموارد في أسواق الطاقة، ويعزز عائدها من التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن الطبيعة العلمية للتقرير ونهجه الموضوعي لن يحولا دون قيام بعض الجهات والأوساط بمحاولة توظيفه لخدمة غايات ذاتية أو تحقيق مآرب سياسية، وذلك عبر الانتقاء منه لما يناسب تلك المصالح وإهمال ما لا يناسبها. ومن بين الأمثلة المتعددة على ذلك ما ورد في صحيفة"نيويورك تايمز"الأميركية في مقالة أعدها روزنثال وريفكن حول التقرير. فقد جاء فيها ما معناه:"ان العديد من خبراء الطاقة والبيئة يرون ان الارتفاع في حرارة الجو سيتضاعف ما لم يتم التخلص من استعمال الفحم والنفط". وهذا، كما رأينا، ليس دقيقاً ولم يأت في التقرير، بل ان التقرير ركز على الاستعمال النظيف للطاقة من خلال تطوير التكنولوجيا المطلوبة لذلك، كما اشترط تقدماً على جبهات عدة، خصوصاً تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية العادلة وبنظام عالمي متكافئ ومتنور. لذلك يجدر بالدول العربية المنتجة للنفط ان تكون على دراية بكل جوانب هذا التقرير وأبعاده، وأن توظفه في تطوير استراتيجية فاعلة تساعدها في لعب دور إيجابي في التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري، وتجنّبها الارتدادات المضرة بمصالحها أو ان تجد نفسها في مواقع لا تريدها أو مواقف لا تنسجم مع مصالحها الاستراتيجية وغاياتها. * مستشار لبناني في شؤون التنمية