بعيداً من أغانٍ يراها البعض متدنية المعاني في بداية القرن العشرين، شهد مطلع العشرينات من القرن الماضي صحوة غنائية على يد سيد درويش، المؤسس الأبرز، للأغنية الوطنية وصاحب الأعمال التي لقيت صدى جيداً ولا تزال. وأعاد"مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي"التابع لمكتبة الاسكندرية الحياة الى عدد من تلك الأغاني بإصدار أسطوانة مدمجة سي دي عنوانها"الألحان الوطنية في عصر سيد درويش"، وهو عنوان غير دقيق، والأكثر دقة هو"ألحان وطنية لسيد درويش"لأنه كان الطرف الأول فيها تلحيناً وغناء. إحدى هذه الأغاني كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي، بعنوان"النشيد الوطني"الذي لحنه درويش وأنشدته فرقة"أولاد عكاشة"عام 1921، ويقول مطلعه"بني مصر مكانكم تهيا، فهيا شيدوا للملك هيا. خذوا شمس النهار له حليا، ألم تك تاج أولكم مليا"، في إشارة الى قرص الشمس الذي كان أبرز رموز العبادة في مصر القديمة. ويتغنى النشيد بالفلاح المصري"ولتحيا ضحايا الحرية". وتبدأ الأسطوانة بلحن"بلادي بلادي بلادي"، وتقول كلماته"بلادي بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي. مصر يا ست البلاد، أنت غايتي والمراد. وعلى كل العباد، كم لنيلك من أياد... مصر أنت أغلى درة، فوق جبين الدهر غرة. يا بلادي عيشي حرة، واسعدي رغم الأعادي". وكان النشيد الوطني لمصر منذ منتصف الخمسينات، هو"والله زمان يا سلاحي"وبعد توقيع معاهدة"كامب ديفيد"مع إسرائيل عام 1979، تغير النشيد الى"بلادي بلادي بلادي"الذي يختلف قليلاً عن اللحن الذي وضعه درويش 1892-1923. وكان مركز توثيق التراث أصدر سابقاً أربعة كتب توثيقية عن أم كلثوم وسلامة حجازي ومحمد عبد الوهاب، ضمن"موسوعة أعلام الموسيقى العربية"، كما أصدر كتاباً في مجلدين عن تراث درويش من إعداد إيزيس فتح الله وحسن درويش ومحمود كامل. وسجل الكتاب أن أغنية"مصرنا وطننا"كتبها درويش الذي لحن الكلمات"لاستقبال الزعيم سعد زغلول عند عودته من المنفى"، ويرد اسم زغلول في مطلع الأغنية. "مصرنا وطننا، سعدنا أملنا، كلنا جميعاً للوطن ضحية. أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا، أن تعيش مصر عيشة هنية. عزك حياتنا، ذلك مماتنا... يا عشنا سعدا، يا متنا شهدا. لنحيا أمة مستقلة". وفي غالبية أغاني الأسطوانة، يخرج صوت أحد أفراد المجموعة"الجوقة"، ليهتف قائلاً:"تعيش مصر حرة"أو"تعيش بلادي حرة"أو"فليحيا الاستقلال التام". بصورة تبدو ارتجالية. وأشار الكتاب في هامش، الى أن درويش ألف هذا النص ولحنه ليكون ضمن ألحان مسرحية"كليوباترا ومارك أنطوان"، لكن"السيدة منيرة المهدية حذفته"وتوفي درويش في أيلول سبتمبر 1923، وهو في الحادية والثلاثين، قبل أن ينهي تلحين مسرحية"كليوباترا ومارك أنطوان"التي أكمل محمد عبد الوهاب تلحينها وقام بدور مارك أنطوان أمام المهدية 1885-1965 التي مثلت دور كليوباترا. وتضمنت الأسطوانة 7 أناشيد وطنية لدرويش، منها اثنان من مسرحية"شهرزاد"، هما"أنا المصري"و"أحسن جيوش"و"لحن الكشافة"الشهري الذي يبدأ بالقول"قوم يا مصري". وكان درويش يقدم أعمالاً ذات طبيعة وطنية حتى في بعض المسرحيات الهزلية التي يلحن أغانيها، ومنها مسرحية"اش"التي قام ببطولتها نجيب الريحاني عام 1919، وتزدحم بألحان منها"لحن السياس"وهم سائقو السيارات الخشبية و"لحن الأعجام"و"لحن الشعراء"ولحن"ضاربة الودع"وهي العرافة، وكذلك ألحان"بائعة الورد"و"العوالم والالاتية"، وهم الراقصات الشعبيات والموسيقيون ليشارك الجميع في"لحن الختام"قائلين:"يا مصر يحميك لأهلك، ما نشوف فيك إلا أيام سعدك. نموت ونحيا احنا في حبك، زينة الدنيا ولا فيش بعدك... فلتحيا مصر يا ناس وتعيش". وترك درويش آثاراً موسيقية كثيرة أهلته ليكون أول من يحمل لقب"فنان الشعب"ولم يزد عمره الفني على 5 سنوات، بعدما ترك الاسكندرية عام 1917 متجهاً الى القاهرة التي حقق فيها المال والمجد والشهرة، إذ لحّن فيها أغاني أكثر من 20 مسرحية لنجيب الريحاني 1887-1949 وعلي الكسار 1887-1957 وغيرهما. ويرى موسيقيون ومؤرخون أنه بموت درويش، تراجع عصر من الغناء بمعناه الذي عرفه المصريون طوال تاريخهم، وفيه يتجاوب المستمعون مع المغني. ثم بدأت مرحلة الصوت الواحد الذي لا تنقصه الموهبة، لكنه استأثر بالغناء والميكروفون والأضواء بصعود عبد الوهاب وأم كلثوم.