بعد مرور 82 عاماً على رحيل الموسيقار المصري سيد درويش، ما زالت الموسيقى العربية تدين له بعملية الإحياء والتطوير التي كتب لها الاستمرار من بعده، وما زال الكثير من أغانيه يحظى بشعبية كبيرة ويدرس للأكاديميين. ولد الموسيقار المصري في آذار مارس عام 1892 في حي كوم الدكة في مدينة الإسكندرية الساحلية. كان والده نجاراً بسيطاً، أراد لابنه أن يكون ذا شأن في مستقبله، فأدخله معهداً دينياً علّه يتخرج فيه معلماً أو شيخاً. لكن سيد الذي هوى الموسيقى منذ صغره، لم يستطع الالتزام بقواعد المعهد الديني الصارمة، كما اضطر لمغادرته بعد وفاة والده بغية أن يعيل أسرته الفقيرة. عمل درويش في عدد من المهن البسيطة، وبدأ كعامل بناء. ولكن موهبته ظلت متوهجة داخله، لم تستطع ظروف الحياة قهرها. كان درويش يغني أثناء العمل ألحاناً حماسية أسهمت في تنشيط زملائه، ما دفع رئيسه الى ان يكلّفه فقط بالغناء. ولكن طموحات هذا الشاب الفقير كانت أبعد من الغناء في مبان تحت الإنشاء لعمال البناء. فقرر أن يحيي الحفلات في الملاهي الليلية في مدينته الإسكندرية. عام 1909، بدأ مشواره الفني الحقيقي عندما التحق بفرقة أمين وسليم عطا الله بعد أن سمعا صوته صدفة، وهما جالسان في مقهى بالقرب من الورشة التي كان يعمل فيها. واتجه مع الفرقة إلى سورية ولبنان ليتعلم أصول الغناء العربي. وعندما عاد واستقر في القاهرة، انضم إلى فرقة الشيخ سلامة حجازي عام 1917، وصار إنتاجه غزيراً واشتهرت ألحانه بين الشعب المصري. وكانت أغنية"أنا هويت"أول ما لحن درويش، وهي أغنية انطبعت في ذاكرة ووجدان الموسيقى العربية وما زالت حية حتى الآن. من أشهر ألحانه"أنا عشقت"و"عشقت حسنك"و"يوم تركت الحب"و"يا شادي الألحان"وغيرها من الألحان الخالدة. ومع اندلاع ثورة 1919 في مصر، دخل درويش منعطفاً جديداً أسهم في سطوع نجمه في سماء الفن حتى أصبح فنان الشعب بالفعل إذ ساهمت أغانيه في إلهاب حماسة الوطنيين وعبرت عما ضاقت به الصدور آنذاك. وفي ذلك الوقت، كتب درويش أغنية"بلح زغلول"، وكانت كلمتا"زغلول"و"سعد"، هما المتنفس الوحيد للتعبير عن الغضب المكبوت في صدور الوطنيين المصريين بعد أن منعت الحكومة آنذاك نشر أخبار أو أسماء الزعماء المنفيين مثل سعد زغلول. كما لحن سيد درويش نشيد"بلادي بلادي"الذي استلهم كلماته من أقوال الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل، وهو النشيد الوطني المصري الحالي. أغاني الحب والوطن لم تكن ميزة درويش الوحيدة، فقد استطاع أن يكون موسيقاراً للشعب بعد أن تناول معاناته وتحدث في أعماله عن غلاء المعيشة والسوق السوداء. واقتحم درويش مجالاً جديداً تماماً من الأغاني الشعبية التي كتبت باللغة العامية المصرية البسيطة، وقرر درويش تلحين الأوبرا. وأول عمل كان"أوبرا شهرزاد"التي عرضت للمرة الأولى في أواخر عام 1921. كما لحن أوبرا"العشرة الطيبة"التي ألفها محمد تيمور وأوبرا"الباروكة"الشعر المستعار. وعلى مدى خمس سنوات قدم سيد درويش 250 لحناً وحوالي 26 مسرحية غنائية ليسجل رقماً قياسياً في الإنتاج لم ينازعه فيه أحد. وكانت وفاة موسيقار الشعب سريعة، ولم يمهله الموت كغيره من العظماء العباقرة الوقت الكافي لتقديم المزيد من موهبته. فمثل متسارت الذي توفي وهو في الخامسة والثلاثين، وشوبان الذي مات وهو في الحادية والثلاثين، توفي درويش عام 1923 عن 36 عاماً. توفي الفنان الشاب في موطنه في الإسكندرية في ظروف غامضة لم تكتشف ملابساتها حتى الآن. على رغم فترة العطاء المحدودة لدرويش، تمكن من أن يحدث ثورة في الموسيقى العربية التي شهدت على يديه انقلاباً وعاشت بعده عصوراً جديدة رسمت خطوط فنانين كثيرين.