كيف تتحول اتفاقات إملائية وإذعانية إلى اتفاقات واجبة الاحترام؟ هذا هو السؤال الذي لاح في الأفق غداة صدور تصريحات قيادات "حماس" في ختام جلسات ما سمي بالتوافق مع "فتح" والتي كان من أبرز خلاصاتها أن "حماس" باتت تحترم الاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير مع اسرائيل خلال العقد التسعيني والتي اصطلح على تسميتها باتفاقات أوسلو. والغريب أنه جرى التعامل مع هذا التحول الخطير كأنه موضوع إجرائي وغطت ضجة التوافق على خطورته. وجرى التعامل مع تلك الاتفاقات بأسلوب يعتمد صيغة نسميها صيغة التعريف التنكيري وهي صيغة لم يعهدها لسان العرب ابتكرتها الديبلوماسية الحديثة تستخدم فيها"ال"التعريفية لتعريف ما يجري الحديث عنه لكن يكاد سياق الحديث يجعل ما يجري الحديث عنه نكرة! فجرى التعامل مع اتفاقات أوسلو على أنها اتفاقات وكفى، رغم أنها ليست كأي اتفاقات. بل هي اتفاقات كانت"حماس"ومعها جل أبناء شعب فلسطين ومفكروه يصفونها بأنها"اتفاقات مُمْلاة"وأنها"اتفاقات إذعان". وهي اتفاقات ظلت غالبية كوادر القوى الفلسطينية رافضةً لها طيلة عقد ونيف. بل إن زمرا من المقاومين من مختلف القوى قدموا حياتهم تحت شعار"مقاومة اتفاقات الإملاء". وينبئنا التاريخ أن أبرز بواعث اندلاع انتفاضة الأقصى نفسها"باعث مقاومة اتفاقات الإملاء". فانتهاك حرمة الأقصى من قبل شارون جاء على أرضية فشل المسعى الأميركي الإسرائيلي الذي رام إملاء اتفاق جديد يُخَوِّل الإسرائيلي السيطرة على الأقصى في مفاوضات كامب دافيد الثانية عام 2000. باختصار إننا لنجرؤ غير مؤاخذين على وصف مقاومة أبناء شعب فلسطين خلال العقد الماضي بأنها"مقاومة الإملاء". وهي مقاومة لإملاءٍ يروم اغتصاب حقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف ومنح شرعية زائفة للاستلاب والاغتصاب. والأغربُ أن يأتي هذا التحول نحو"احترام الإملاء"في وقت يشهد فيه ميزان القوى هبوطا متزايدا لكفة النفوذ الأميركي والصهيوني يبصره المبصرون حتى مع إدراك بعض أوجه الخلل داخل الأمة. فالإخفاق الإسرائيلي في لبنان ترك الحالة الإسرائيلية في تصدع غير مسبوق. بجانب ذلك فالإخفاق الأميركي في العراق وأفغانستان وفي إنفاذ الخطة الأميركية في لبنان في وقت الحرب والسلم والذي تتبدى تداعياته على الساحة الأميركية الداخلية، هذا الإخفاق ترك آثارَهُ على المواجهة مع اسرائيل. فظهر للمرة الأولى منذ أزمة بوش الأب مع شامير عام 1991 شيء من التناقض بين التوجهات الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية وهو التناقض الذي ظهر خلال حرب تموز في لبنان إذ قامت الإدارة الأميركية بإجبار الإدارة الإسرائيلية على إطالة حرب أرادها الإسرائيليون خاطفة. غاية الأمر أننا نقول إن التحول نحو احترام الاتفاقات الإملائية هو أمر مستهجن حتى بمقاييس النظر الاستراتيجي العملي المستقيم وليس فقط بمقاييس النظر الحقوقي القويم. فمن غير المستساغ أن يقدم أحدٌ على التصرف أو على إقرار التصرف في حقوق شعب غير قابلة للتصرف في مرحلة يقول كل ذي حس سياسي سليم أن تشديد الضغوط على اسرائيل خلالها سيحقق منجزات استراتيجية ويتقدم بالأمة خطوة نحو التحرير التدرجي من دون إسباغ أي شرعية زائفة على الاستلاب والاغتصاب. لقد قلنا بامتناع إعمال مفهوم المخالفة أعلاه لأنه ترددت مقولات تحتج بأن ثمة مبررا لاحترام اتفاقات أوسلو اليوم بعد إنكارها بالأمس وهو التضييق المالي غير المسبوق على أبناء شعب فلسطين بالداخل. الحق أنه لو صحت هذه المقدمة فهي حجة على من يقول إن النتيجة التي يجب الخلوص إليها منها هي جواز التصرف في الحقوق غير القابلة للتصرف وليست حجة له. نتيجة ذلك أن التضييق المالي العالمي غير المسبوق على أبناء شعب فلسطين جاء بعد أن قبلت قوة فلسطينية أخرى أن تحصر حركتها داخل مسار أوسلو وليس قبله. وتنجلي هذه النقطة بشرح نظرية أسميناها نظرية"صراع المسارات". تقوم النظرية على أن كل نزاع طويل المدى يشهد سعياً من أحد الخصمين إلى أن يفرض على الآخر مساراً يحكم الأمر الواقع والمواجهة والتسوية بما يمكنه من السيطرة على حال الأمر الواقع وصيرورته إن امتد وعلى نطاق المواجهة وآفاقها إن حصلت وعلى حدود التسوية ومآلها إن حدثت. والطبيعي أن صراع المسارات يتأثر بواقع ميزان القوى. ففي النزاعات التي يشهد ميزان القوى الخاص بها تفاوتاً وتبايناً بين وضع الكفتين تجد طرفاً يسعى لفرض مسار وآخر يسعى إلى مقاومة المسار وليس بالضرورة إلى فرض مسار بديل. وفي أحيان قليلة يكون الخصم الأضعف من الجرأة بحيث يسعى إلى فرض مسار بديل بجانب مقاومة المسار الذي يريد الطرف الأقوى فرضه. وفي النزاعات التي يشهد ميزان القوى الخاص بها اقتراباً بين وضع الكفتين تجد كلا من الخصمين يسعى إلى فرض المسار الذي يود فرضه وفي نفس الوقت إلى مقاومة المسار الذي يروم الخصم فرضه عليه. ومن أبرز أمثلة صراعات المسارات الصراع حول مسار التسوية عقب العام 1967، فقد رامت الإدارة الإسرائيلية أن تتخذ من قرار 242 ومن تفسيرها له الذي يضيق نطاق تعريف"الأرض المحتلة"مساراً لأي مواجهات أو تسويات ستجري مستقبلاً. وفي العام 1993 سعى النفوذ الإسرائيلي - الأميركي إلى فرض مسار جديد هو مسار أوسلو بعد أن جرى استهلاك مسار 242 قرابة ثلاثة عقود وبعد أن بدا أن فرض مسار أوسلو سيصحبهُ زيادة تضييق مساحة الأرض التي يمكن التفاوض حولها. في كل من الحالين برزت مقاومة فلسطينية وعربية للمسار المراد فرضه تجلت في حروب وانتفاضات وأعمال مقاومة متنوعة. هذا ويصف البعض السياسة بأنها صراع قرارات وهو وصف قد لا يبتعد عن ساحة الحق لكن الأحق الأدق أن توصف السياسة بأنها صراع مسارات. فصراع المسارات أخطر بسبب أنه في حالة نجاح طرف ما في فرض المسار الذي يروم فسيظل المسار حاكما للنزاع لفترة وما القرارات التي ستصدر خلال تلك الفترة إلا تفاصيل العنوان الكبير. وما كان للتضييق المالي أن يفعل فعله إلا بعد دخول"حماس"أو إدخالها - أو الاثنين معاً مسار أوسلو. فعندما كانت القوى الفلسطينية تقاوم مسار أوسلو لم يكن هناك تضييق مالي على هذه الشاكلة وما كان له أن يكون خاصة وأن قوى المقاومة كانت لها أبنية اجتماعية وقنوات غير رسمية تمكنها هي ومن تعبر عنهم من تجنب الانهيار المالي. أما عندما تختار جهة معينة أن تشتغل من خلال أبنية مسار أوسلو - أي السلطة وهيئاتها التي يمكن التحكم فيها إجرائيا فعندئذٍ يصبح الحصار المالي ممكنا. والأغرب أنه عندما يثار التناقض بين احترام اتفاقات أوسلو اليوم ونبذها بالأمس يرد فريقٌ بأن اتفاقات أوسلو قد ماتت بينما يرد فريق آخر بأن كل اتفاق من اتفاقات مسيرة أوسلو مختلف عما قبله وعليه فلا وجود لشيء اسمه اتفاقات أوسلو. أما بالنسبة للقول إنها ماتت فكيف يصح ذلك والكل يرى ثمار الشجرة الأوسلوية تتدلى من فروعها يبصرها المبصرون وأبرزها هذه السلطة التي أرادوا لها أن تصبح ممثل شعب فلسطين والتي فرضت على شعب فلسطين عام 1993 كمكون أساسي من مكونات مسار أوسلو وكبديل واقعي وليس بالضرورة رسمياً لمنظمة التحرير؟ ثم ماذا عن القانون الأساسي الذي تنبع التصورات الحاكمة لصياغته من تصورات اتفاقات أوسلو؟ وماذا عن التزام كل من دخل السلطة بلغة اتفاقات أوسلو ومصطلحاتها التي تشوه الهوية الفلسطينية تشويها كاملا؟ وأخيرا لو كانت اتفاقات أوسلو ماتت فما هي الاتفاقات التي تم التصريح بأنها أمست موضع احترام؟ وأما بالنسبة للاختلافات الإجرائية بين شروط بعض اتفاقات أوسلو وبعضها الآخر فهذا لا يُسَوغُ التذرع بعدم وجود شيء اسمه اتفاق أوسلو. فاتفاقات أوسلو وبروتوكولاتها وإعلاناتها وتفاهماتها وحتى تعليماتها المنفردة كخريطة الطريق كلها تشكل في جملتها مساراً متكاملاً ينبع من تصور معين وتحكمه فلسفة معينة وينتهي إلى نهاية واحدة وهي التصرف في حقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف ومنح شرعية زائفة للاستلاب. ويبدو أن أولئك الذين يسارعون إلى تبرير مواقفهم اللحظية المضطربة بقولهم إن اتفاقات أوسلو قد ماتت عندما يُسألون عن علة دخولهم في مسار أوسلو لا ينتبهون أن تذرعهم هذا قد يشوش صورة الواقع لدى بعض من يسعى لمقاومة مسار أوسلو فيظن أن مقاومته ما عاد من تحتها طائل بعد زوال ما يقاومه! هذا والأشد غرابة أنه بعد كل هذا يدعي البعض ممن بات يحترم اتفاقات أوسلو بعد أن كان يرفضها الرفض كله أن هذا الخيار"يمثل إرادة شعب فلسطين". وهو ذات الكلام الذي قالته قيادة"فتح"عندما قبلت التوقيع على اتفاقات أوسلو وما تلاها. وهو ذات الكلام الذي كان موضع إنكار قيادات القوى الأخرى التي رفضت الإقرار بأن توقيع اتفاقات أوسلو يمثل إرادة شعب فلسطين في منتصف التسعينات. والحق أننا عن مجرد مناقشة هذا القول أغنياء. غايةُ ما يمكننا قوله عنه أن ظاهرة افتراض تطابق موقف الحزب مع موقف الشعب حتى لو اتخذ الحزب موقفاً مناقضاً لموقفه الذي أخذه بالأمس القريب بات من أخطر الظواهر التي يعاني منها شعب فلسطين في الآونة الأخيرة. * كاتب فلسطيني