إن موجة غضب المسلمين المتعاظمة حيال الولاياتالمتحدة والغرب والانتصارات الأخيرة التي حققها الإسلام السياسي، جددا الشعور الداهم لدى العديد من الإسرائيليين بأنهم محاصرون. المعلق الإسرائيلي المعروف سيفر بلوتزكر كتب أخيراً في صحيفة"يديعوت أحرونوت"الأوسع انتشاراً من بين كل الصحف الإسرائيلية أن"التصويت الفلسطيني يرتبط بالظاهرة المثبطة للعزيمة التي تجري في العالم العربي، وتتردد أصداؤها داخل كل أسرة في إسرائيل". لا تواجه إسرائيل تهديدات"حماس"فحسب، لكنها تواجه أيضاً غضباً أشمل ينتاب العالم الإسلامي بكامله حيال الغرب. وغالباً ما يتم الخلط بين الإثنين، لكنه خلط مضلّل بشكل خطير، لأنه يعطي رؤية مشوشة عن كلٍّ من المخاطر والفرص المتأتية عن فوز"حماس"في الانتخابات، مهما بدت هذه الفرص ضئيلة. يشحن غضب العالم الإسلامي حيال الغرب ذلُ إخوانهم المسلمين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما يعتبره أيضاً المسلمون سلب فلسطين، الأرض التي تشكل جزءاً من دار الإسلام، والتي اشترك الغرب في سلبها، والحرب في العراق وما خلفته من كوارث، والفظائع التي ارتُكبت ولا تزال تُرتكب في سجون الجيش الأميركي، ورياء المخططات الأميركية لإحلال الديموقراطية في بقاع عدة من العالم. يُنظر إلى هذا العداء كدليل على المواجهة الدينية والثقافية بين الإسلام والغرب المسيحي. لكن وللمفارقة، يُعتبر الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين الأقل شأناً بين التهديدَين، لأنه ذو طابع سياسي أكثر منه ديني، والمجتمع الفلسطيني هو من بين المجتمعات الأكثر علمانية في العالم العربي. وحتى بالنسبة إلى"حماس"، يتفوق عادة المكوّن الوطني لصراعها على اعتباراتها الدينية حين ينشأ تتناقض بين الإثنين. وليس السبب في ذلك فقط معارضة معظم الفلسطينيين لأهداف"حماس"الدينية، ولا سيما للجهود الرامية إلى تنظيم سلوكهم الشخصي على أساس ديني، بل والأهم لأن"حماس"نفسها حركة فلسطينية وطنية بقدر ما هي دينية. رداً على نداء وجهه الرجل الثاني في القاعدة، أيمن الظواهري، إلى"حماس"بأن تستمر في جهادها لاستعادة آخر"ذرة تراب من فلسطين التي كانت أرضاً مسلمة واحتلها الكفار"، صرح مسؤول في حماس بأن"حماس تعتقد أن الإسلام مختلف تماماً عن إيديولوجية الظواهري". وأضاف:"معركتنا هي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهمنا الوحيد استعادة حقوقنا وخدمة شعبنا". عند اختيار المرشحين للمجلس التشريعي الفلسطيني، بدا أنه كان للبراغماتيين في"حماس"، بقيادة اسماعيل هنية رئيس الوزراء الجديد، وعبد العزيز دويك رئيس المجلس التشريعي الجديد، الأفضلية على من يُعتبرون المتشددين فيها. وأصبح العديد من المتشددين أنفسهم يعتمدون لهجة تزداد اعتدالاً، فحتى هم يعرفون أن"حماس"لم تفز في الانتخابات بسبب إيديولوجيتهم التي لا تقبل المساومة، بل لأنهم خاضوا المعركة على أساس برنامج معتدل قوامه حكومة غير فاسدة وخدمات أفضل. وفي استطلاع للرأي جرى بعد الانتخابات، اعتقد واحد في المئة فقط من المجيبين أنه يجب أن تكون أولوية"حماس"تطبيق الشريعة الإسلامية في فلسطين، في حين قال 73 في المئة إنهم لا يزالون يدعمون معاهدة سلام مع اسرائيل وحلاً يقضي بقيام دولتين. إذا تمت الغلبة لمؤيدي الاعتدال في"حماس"وحصلت مساكنة طويلة الأمد بين سلطة فلسطينية بقيادة"حماس"وإسرائيل، فستكون لمثل هذه التسوية تبعات واسعة النطاق، ليس فحسب بالنسبة إلى علاقات إسرائيل مع الفلسطينيين، بل مع العالم الإسلامي الأوسع أيضاً. ذلك أن موافقة"حماس"على مثل هذه التسوية ستمنح إسرائيل"بوليصة تأمين"من النوع الذي لا تستطيع"فتح"توفيره لها. هل ثمة أي حظوظ لمثل هذه النتيجة المتفائلة ؟ من المبكر جداً على أي حال استبعادها قبل أن يتضح المسار السياسي والإيديولوجي لحكومة"حماس"الجديدة. وقد وصف لي أخيراً الإتجاه المحتمل لهذا المسار عضوٌ رفيع المستوى في اللجنة السياسية ل"حماس"بالعبارات التالية: - لا يستبعد أعضاء من القيادة السياسية ل"حماس"حدوث تغيرات مهمة مع مرور الزمن في سياساتهم حيال إسرائيل وفي الوثيقة التأسيسية، بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل، بل وبعض التعديلات المتبادلة الطفيفة المتعلقة بالحدود. وتتوقف هذه التغيرات على اعتراف إسرائيل بالحقوق الفلسطينية. ولن تقبل"حماس"بأقل من معاملة بالمثل بشكل كامل. - لا تعارض"حماس"المفاوضات مع إسرائيل، شرط أن تقوم على أساس أنه لا يحق لأي طرف التصرف بشكل أحادي لتغيير الوضع الذي كان سائدا قبل حرب 1967، وأن المفاوضات، عندما تُستأنف، ستتخذ من حدود ما قبل 1967 نقطة انطلاق لها. - لن تتخلى"حماس"عن اعتقادها الديني القائل إن فلسطين هي وقف منحه الله للمسلمين إلى الأبد. ولكن المعتقد الديني لا يمنع التكيّف مع الحقائق الزمنية والقانون الدولي، بما فيها إقامة دولة إسرائيل. -"حماس"مستعدة للالتزام بهدنة طويلة الأمد تضع حداً لكل أعمال العنف. هنا أيضاً يجب أن يسود التعامل بالمثل بشكل كامل، وعلى إسرائيل وقف كل الاعتداءات على الفلسطينيين. إذا وافقت إسرائيل على الهدنة، ستكون"حماس"مسؤولة عن منع الانتهاكات الفلسطينية ومعاقبتها، سواء ارتكبتها حركة"الجهاد الإسلامي"أو"كتائب الأقصى"أو حتى أفرادها هي حماس. تدرك"حماس"أنها لا تستطيع المطالبة بالاعتراف بها كحكومة فلسطين الشرعية ما لم تكن مستعدة لوضع هذه الهدنة موضع التنفيذ، ضمن سياق مسؤوليتها عن القانون والنظام. - ستكون أولوية"حماس"المطلقة إعادة إحياء المجتمع الفلسطيني بتعزيز سيادة القانون، واستقلالية القضاء وفصل السلطات بين مختلف أجهزة الحكم، وجعل أجهزة الأمن محترفة ومسؤولة. ستهدف أولويات"حماس"إلى وضع حد للفساد في الحكومة وتوفير مبادرات اقتصادية واجتماعية جديدة تتلاءم مع الظروف الحالية للفلسطينيين. - لن تسعى"حماس"إلى فرض معايير في السلوك الديني على الشعب الفلسطيني، مثل ارتداء الحجاب أو العباءة، ولو أنها تعتقد بوجوب اتباع الجميع بعض المعايير المتعلقة بالاحتشام في الحياة العامة - ولكن ليس عبر فرض الالتزام الديني. ما هو استثنائي في هذه الآراء يكمن في تفهمها للأمر الواقع. ومنذ بعض الوقت، عبّر عن آراء مشابهة معتدلون آخرون في"حماس"أيضاً. وفي السنة الماضية، صرح القيادي في"حماس"محمد نزال:"نعتقد أن فلسطين التاريخية بكاملها ملك للفلسطينيين، ولكننا نتحدث الآن عن الواقع، عن الحلول السياسية... لا أعتقد أن ثمة مشكلة في التفاوض مع الإسرائيليين". ومنذ عهد أقرب وعلى مستوى أهم بكثير، قال رئيس الوزراء اسماعيل هنية إنه لا يوافق فقط على اجتماع بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وإيهود أولمرت، بل أضاف أنه لو حصل عباس على شيء يوافق عليه الشعب الفلسطيني، فستغير"حماس"مواقفها. تتناقض هذه الآراء بشكل صارخ مع جوانب بغيضة تنطوي عليها وثيقة"حماس"التأسيسية 18 آب/ أغسطس 1988، التي تقوم على قراءة المراجع الدينية الإسلامية قراءةً معادية لليهود إلى الحد الأقصى، وعلى افتراءات تقليدية معادية للسامية كبروتوكولات حكماء صهيون. مثل هذه اللغة الحاقدة لم تكن غائبة تماماً عن وثائق وبيانات منظمة التحرير الفلسطينية في الزمن الذي سبق اتفاق أوسلو، ولكن المرء يستطيع أن يجد أيضاً نصوصاً تصوّر الفلسطينيين بأبشع صورة ممكنة لدى بعض المجموعات اليهودية، بما فيها أطراف سياسية رسمية تدعو إلى تنظيف عرقي لكل الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية. يزعم المسؤولون في الحكومة الإسرائيلية الحالية أن ما من عملية سلام ممكنة بوجود حكومة فلسطينية تترأسها"حماس". ولكن بعض المراقبين الأوسع اطلاعاً على الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني يعتقدون أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين من دون مشاركة"حماس". منذ حوالي ثلاث سنوات، قبل أن يتنبأ أحد باحتمال تسلّم"حماس"إدارة السلطة الفلسطينية بزمن طويل، كتب إفرايم هاليفي، الرئيس الأسبق للاستخبارات الإسرائيلية الموساد، ما يلي: "تشكل"حماس"حوالي خمس المجتمع الفلسطيني. ولأنها مجموعة فاعلة وملتزمة ومطلعة، فهي تتمتع بثقل سياسي أكثر من سواها. وكل من يعتقد أنه من الممكن تجاهل مثل هذا العنصر الأساسي في المجتمع الفلسطيني مخطئ بكل بساطة. كما يخطئ من يعتقد أن"حماس"ستتبخر يوماً ما. لن يقوم أبو مازن رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك بقتل آلاف الفلسطينيين من أجل التغلب على الحركات الإسلامية. وفي نظري، فيجب إذاً أن تكون الاستراتيجية المتبعة حيال"حماس"استراتيجية القوة الساحقة ضد طابعها الإرهابي، فيما تُرسل في الوقت عينه إلى قيادتها السياسية والدينية إشارة أنها إذا انتهجت مقاربة معتدلة وانضمت إلى نسيج الحكم الفلسطيني، فلن يُعتبر ذلك تطوراً سلبياً. وفي النهاية، أعتقد أنه ما من سبيل لتجنب اشتراك"حماس"في الحكومة الفلسطينية. أظن أنه يمكن تدجينها في حال تم ذلك، فتُقلّص قوتها الهدامة". ومن السخف التفكير بأن فوز"حماس"يعني"نهاية عملية السلام". لقد ماتت عملية السلام مع انتخاب شارون رئيساً للوزراء سنة 2000. وبشكل أدق، قُتلت - بمكر، وبعد تفكير مليّ - على يد"أحادية"شارون التي نفذ بها انسحابه من غزة، الذي بدوره أمّن الغطاء لأحاديته المستديمة. وقد ساعد تنفيذه الإنسحاب بشكل يتعارض مع رغبات المستوطنين، في تحويل الأنظار عن رفضه إجراء أي مفاوضات مع الفلسطينيين. لا يزال تعبير الأحادية وصفاً ملطّفاً للسياسات الإسرائيلية التي تصادر نصف ما كان يجب أن يشكّل دولة فلسطين، وتكدس الشعب الفلسطيني، الذي يكاد يفوق الشعب اليهودي عدداً، في أراض فلسطينية منعزلة باندوستانات تسخر بالوعد بدولة فلسطينية مستقلة وسيدة وقابلة للحياة، الذي قُطع في خريطة الطريق. ما زالت الأحادية سياسة"كاديما"، الحزب الجديد الذي أسسه أرييل شارون ويرأسه إيهود أولمرت، الذي يرأس الآن الحكومة الإسرائيلية. في الواقع، أنجز هدف"كاديما"إلى حد بعيد. وقاد أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني الحملة الدولية لعزل"حماس"وإسقاطها ما لم تعلن بوضوح تخليها عن حقها في استخدام العنف في"مقاومة"الاحتلال الإسرائيلي، وتعترف بحق إسرائيل في الوجود. لسخرية القدر، يفقد المطلبان أحقيتهما عندما يتقدم بهما أولمرت وليفني، ذلك أن الإثنين من"أمراء"ليكود - تعبير"أمير"هو التعبير المستخدم لأبناء وبنات مؤسسي"أيرغون"النشطين سياسياً والذين يدينون بمراكزهم في القيادة إلى هذا الواقع بشكل كبير. الصفة المميزة لمنظمة"أيرغون"هي لجوؤها إلى الإرهاب في سياق النضال اليهودي لإقامة دولة، ورفضها القاطع للمطالب الفلسطينية على أي جزء من فلسطين. كانت"أيرغون"، من هذين المنظارَين على الأقل، شبيهة جداً ب"حماس". تعوّض الحكومة الإسرائيلية عن افتقادها للمهارة في صنع السلام بتضليل مواطنيها والآخرين، حيال ما تخطط له فعلياً. وآخر ما تخطط له هو ضم مستوطنات كبيرة إلى إسرائيل فيما يتم الانسحاب من مستوطنات أخرى. ويُفترض أن يؤدي ذلك إلى إنشاء حدود إسرائيلية دائمة وتطبيق حل الرئيس بوش القاضي بإقامة دولتين. يتكلم أولمرت وأعضاء من حكومته صراحة الآن عن ذلك. ويحتفل المعلقون الإسرائيليون بهزيمة المستوطنين ونهاية حلمهم ب"أرض إسرائيل الكبرى". ويُنسب تمكّن إسرائيل من تحقيق كل ذلك بشكل أحادي إلى قيادة أولمرت الذكية وسيطرة"حماس"على الحكم، حيث لا أحد يفترض بأنهما قد يتشاركان في تحقيق السلام. لا يُقصد بهذا الكلام أنه ليس لدى حكومة إسرائيلية مبرر للخوف من سلطة فلسطينية بقيادة"حماس"، نظراً لمعارضتها الرسمية لوجود دولة يهودية، وللجوئها حتى تاريخ قريب إلى عمليات انتحارية. ولكن حكومة إسرائيلية تثمّن السلام أكثر من اكتساب أراضٍ جديدة ما كانت لتمهد الطريق لفوز"حماس"، الأمر الذي قامت به حتماً حكومة شارون بخطة الانفراد التي انتهجتها. أكثر من ذلك، ما كانت مثل هذه المخاوف لتعالج بالتهديد بتجويع الفلسطينيين. * مدير مشروع اميركا -الشرق الاوسط في مجلس العلاقات الخارجية - نيويورك