"قصر الاسطوانات" في ساحة "أول ماي"، في قلب العاصمة الجزائر، من أقدم محال بيع أشرطة الغناء والفيديو، المنتشرة بالمئات في المدن الجزائرية، وحتى في الأرياف والقرى على فقرها وعزلتها. أعاد صاحب المحل تحديثه وطلاءه، وأضاف إليه أحدث الأجهزة الصوتية والأضواء المتطورة التي تستقطب المارة"... إنها ثقافة الماركتينغ"، يقول الشاب ياسين الذي لم يدخل بعد عقده الثالث، ويدير المحل مع شقيقه. ويعلق قائلاً:"كثير من الشباب يعترفون بأنه لم يكن في نيتهم اقتناء شريط غنائي، لكن الموسيقى والأضواء الكاشفة، تدفع كثيرين الى دخول المحل بدافع الفضول ثم تأتي"شطارتنا"في إقناعهم، فلا يغادرون المحل إلا بشريط أو اثنين". "كومة"من الأسطوانات، كانت تمسكها حليمة بيدها، وصاحب المحل يتداول على إسماعها مقاطع منها، كلها من أحدث أغاني"الراي"لفنانين يصنعون الحدث في الجزائر، من أمثال الشاب بلال، المقيم على الدوام في ألمانيا، والراحل الشاب حسني الذي نافس الشاب خالد ومامي أواسط التسعينات من القرن الماضي. إذ لا تزال أغاني"أمير الراي والأغنية العاطفية"تلقى رواجاً ويعاد إنتاجها على رغم رحيله عام 1995 مقتولاً على أيدي الإرهابيين. ويتنافس اليوم عشرات الشباب، ممن يحاولون أن يرثوا مجد الراحل حسني، بينهم الشاب هواري الدوفان، وهواري منار الذي أنتج حديثاً ألبوماً يتصدر المبيعات هذه الأيام بأغنيته الجديدة التي تمزج اللهجة الجزائرية باللغة الفرنسية واسمها"حبك Immortel"لا يموت. كانت حليمة 33 سنة تقتني الأسطوانة تلوى الأخرى، والبائع يغريها بالتخفيضات، كلما زادت مشترياتها. بالقرب منها وقف ابنها الصغير بوبكر يدندن ويحرك رأسه، مترقباً بلهفة، كمن ينتظر دوره في الصف. ولما أنهت أمه شراء مقتنياتها، بادلها نظرة فهمت المقصود منها، فاستسلمت لطلبه بابتسامة، بينما خاطب بوبكر صاحب المحل قائلاً"ياخو، عندك كاش سي دي تاع آر ان بي؟". غريب هذا الفتى الذي لم يتعد الثالثة عشرة في اختياره لهذا النوع الموسيقي بالتحديد وهو لا يفهم معاني الأغنية بالانكليزية."لكن تعجبني الموسيقى", قال، وأضاف:"أستمع اليها مع أصدقائي في الاكمالية، فالقنوات الفرنسية تبثها عبر الساتلايت، وهي تعجبنا". كثيرة هي أنواع الموسيقى التي أصبح الشباب الجزائريون يسمعونها ومحال الكاسيت تجود بكل أنواعها، ولك أن تطلب ما شئت، من عهد عبدالحليم وأم كلثوم وما قبلهما، إلى آخر صيحات الموسيقى العصرية، مثل"الهيب هوب"، وپ"الراب"، و"آر ان بي"، والجاز. وتختلف الآراء حول نوع الموسيقى التي يفضلها الشباب، فيقول ياسين صاحب المحل:"لا تزال أغنية الراي تتربع على عرش المبيعات في الجزائر، وخصوصاً عندما يُطرح ألبوم جديد، ويأتي في المقام الثاني"الآر ان بي"مضيفاً"بعض الأغاني الناجحة للراي تمكننا من بيع أكثر من 200 شريط شهرياً". محال شركة" كاديك"هي الأشهر، ونجحت في توقيع عقد مع شركة"روتانا"للفن، لتوزيع آخر أغاني الفنانين المتعاقدين مع الشركة، بهدف الترويج للأغاني الشرقية في الجزائر، لكن الشركة لم تحقق بعد على ما يبدو النتائج المرجوة. يقول أحد الباعة:"الشاب الجزائري يفضل في معظمه الأغاني الراقصة والخفيفة التي تزيل عنه الكآبة ويجد فيها متنفساً للتعبير عن قوة الشباب وتمرده، ولذلك فإن أغاني الراي لا تزال تحتل الصدارة دوماً، وبعدها يأتي"الأر ان بي"الذي أصبح يلقى رواجاً كبيراً في السنوات الأخيرة". ويساند حسام 22 سنة هذا الطرح قائلاً:"أستمع لأغنية الراي ككل الشباب، لأن كلماتها تعبر عن جروح الشباب وقضاياهم بأسلوب بسيط، من قصص الحب، إلى البطالة، ومشاكل الفقر والغربة، وغيرها. كما أن الراي سهل الحفظ، وموسيقاها تتطور باستمرار". وعلى النقيض تقول ابتسام 26 سنة وهي موظفة:"أنا أستمع للفن الشرقي، وخصوصاً كاظم الساهر، وأرفض الاستماع للراي لأن كلماتها باتت"هابطة"ولصيقة بالكباريهات والنوادي الليلية". وتضيف بحسرة:"كنت شغوفة بأغاني الراحل حسني الذي يحسن انتقاء كلمات تخاطب الأحاسيس، أما اليوم فللأسف أغنية الراي انحرفت عن رسالتها الحقيقية، وأصبح كل من هب ودب يغني الراي". وعلى هذا النحو يقول الصحافي سمير بوجاجة المتابع لسوق الأشرطة وأخبار الفنانين:"أغنية الراي تراجعت كثيراً، وبات الفن الشاوي والقبائلي نوع من الغناء باللهجات الأمازيغية هو السائد، وخصوصاً في الأعراس. كما أن فناني الراي أصبحوا يقلدون بعضهم بعضاً". ويرى سمير أن الراي باتت تنبذه السلطات ومسؤولو الثقافة في الجزائر:"المسؤولون لم يعودوا يشجعون أغنية الراي مثلما كانت عليه الحال منذ أواسط الثمانينات لإلهاء الشباب عن الحديث في السياسة وتناسي مشاكلهم الاجتماعية، فتراجع بث أغاني الراي في الإذاعة والتلفزيون بسبب فضائحية الكثير منها، وشكاوى الجزائريين وانتقادات الصحف". على الطرف الآخر، يقف شباب يستمعون للأغاني الشعبية، التي تؤدى بالعود والقيثارة والموندول، وهي أغاني تؤدى بلهجة جزائرية خالصة، وتتميز بثقل موسيقاها وعمق كلماتها التي تتطلب تركيزاً لفهم المعاني. كذلك وجدت أغاني"الراب"طريقها إلى قلوب الجزائريين، إذ لا يزال الشاب لطفي دوبل كانون مثلاً يفرض حالات الطوارئ في حفلاته التي غالباً ما لا تتسع للأعداد الهائلة التي تغزو مكان الحفلة. وتتميز أغانيه بتطرقها إلى القضايا السياسية والديموقراطية والفساد السياسي في الأنظمة العربية والهجرة غير الشرعية، وتعظ الشباب وتحصنهم على الاعتناء بدينهم. ولربما كانت هذه ميزة الشاب لطفي دوبل كانون عن بقية الفنانين، كونه الوحيد الذي يؤدي أغاني عن حب الوطن، والتدين، والحض على العمل، ومحاربة الجريمة والسرقة. ونالت أغانيه تلك نجاحاً غير مسبوق حتى بين السياسيين، بعدما توعدهم أخيراً بأغنية عن فضيحة"الخليفة"التي هزت الجزائر منذ أسابيع قليلة وجرت وزراء ومسؤولين إلى المحاكم.