مثير للدهشة والإعجاب والتساؤل ما جرى منذ أيام في مكّة المكرّمة من اتفاق تاريخي بين حركتي "فتح" و "حماس" لوقف النزاع المسلح على أرض فلسطين لا بل السعي والالتزام من قبلهما لتشكيل حكومة وفاق وطني يشترك فيها الطرفان بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الفلسطينيّة المستقلّة التي ستوكل إليها الوزارات السياديّة والأساسية. وهذا الاتفاق استطاع في الحال وقف النزيف وأعمال العنف في قطاع غزة والضفة الغربية. فالفلسطينيون لم يكونوا يتطلعون إلا إلى هذه التسوية التي تضع حدّاً للصراع القائم الذي كاد يؤدي إلى نشوب حرب أهليّة فلسطينيّة معلنة تقضي على طموحاتهم المشروعة في إنشاء دولة فلسطينيّة مستقلة استقلالاً ناجزاً ومدعّماً بالسلم الأهلي، قادرة على إجراء المزيد من المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي لانتزاع الحقوق الفلسطينيّة ضمن مساعي التسوية السلمية التي تعمل اللجنة الرباعيّة الدوليّة على إحيائها. فالدهشة مردّها إلى التوقف الفوري للاقتتال. والإعجاب سببه مدى النضج والوعي المتقدّم لدى القواعد الشعبيّة الفلسطينيّة. أمّا التساؤل فيتركّز حول التوقعات المستقبلية لصمود هذا الاتفاق وعدم تعرّضه للانتكاسات والغرق مجدداً في الاقتتال الداخلي المشين. تبدو الرياض بعد الاتفاق أكثر من أي وقت مضى العاصمة الكبرى للسياسة العربيّة والمركز الأوّل لصنع القرارات التاريخيّة المصيريّة والحاسمة. فالقيادة السعوديّة أصبحت بجدارة الآن الجهة الأكثر قدرة على توجيه الحياة السياسية في المنطقة العربيّة وتسييرها بالاتجاه الذي ترعاه حيث يأتي دورها تتويجاً لمساعي القاهرة التي اضطلعت بدور عملاني وميداني ملحوظ في فلسطين. فإن كان دور مصر في بذل جهود كبيرة لإبقاء الوضع الفلسطيني المتفجّر تحت السيطرة إلاّ أنّ تلك الجهود ظلّت بحاجة إلى مخرج وحلّ يفضي إلى توقيع اتفاق وتعهّد لم تكن القاهرة قادرة على وضعهما قيد التنفيذ وحدها. إن الوحدة الاجتماعية الفلسطينيّة المتمثلة بالنسيج الاجتماعي الواحد والهواجس والمخاوف المشتركة التي تضني الشعب الفلسطيني شكّلت الأرضيّة الضروريّة لإنجاح هذا الاتفاق والسعي الى تمتينه وتثبيته أي بالضبط تحصينه ضد أي خروقات وانتكاسات يجب أخذها في الحسبان. وتتيح الوحدة الاجتماعيّة الفلسطينيّة المجال رحباً للعمل السياسي، لأن الخلافات بين الطرفين المتنازعين والمتعارضَين هي سياسية بامتياز ولا علاقة لها بأي صراع للطوائف والمذاهب، كما هي الحال في العراقولبنان. لذا يظلّ السلم الأهلي فرصة ممكنة ومتاحة، حتى ولو ذهب طرفا النزاع أخيراً إلى حدّ المواجهة المسلّحة واللجوء إلى الخطف والتصفيات وأعمال العنف. بل حتى ولو استندت الخلافات إلى خلفيات نظرية وعقائدية فقد ظلت على الدوام في الساحة الفلسطينيّة تحت سقف الصراع السياسي منزّهة عن أيّة دوافع مذهبية. لقد أصبح توجه النظام الإيراني أمراً واقعاً لا مجال لتجاهله والقفز فوقه بالنسبة إلى مدى تأثيره على حركة"حماس"الإسلامية، ضمن الاندفاع الإيراني العام نحو الخليج والبحر المتوسط. لأن علاقة طهران ب"حماس"سياسية بامتياز ولا تشوبها أية نوازع مذهبيّة كما هي علاقتها ب"حزب الله"اللبناني الشيعي وتأثيرها على جنوبالعراق ذي الأكثريّة الشيعيّة الساحقة. فالانقسام الفلسطيني ظلّ سياسياً بامتياز وحلوله ستبقى سياسيّة، منزّهةً عن أية تأثيرات مذهبية مما سهّل الجهود المصريّة وضاعف من أهمّية الضغط السعودي. وقد نجحت الجولات السعوديّة في المنطقة للوصول إلى اتفاق يؤدي إلى تشكيل اسماعيل هنيّة مجدداً حكومة وحدة وطنية. إلاّ انّ السعودية تدرك المعطيات الاقليمية وأهمية الدور السوري في البؤر المتوتّرة بل المهترئة الثلاث: العراقولبنان وكذلك فلسطين، فلا بد لإبقاء دور ملحوظ لسورية التي بدأت تعتريها الشكوك حول التغييرات المستجدّة في توجّهات طهران الاقليميّة ما يفسّر محاولات دمشق للتقرّب من أنقرة وكأن سورية تنبّه طهران إلى أنّ البديل الاقليمي لمساندة إيران لها موجود وجاهز عند الجيران الأتراك. لقد لعب الشعب الفلسطيني بقواه السياسيّة وفصائله دوراً رائداً وطليعياً في إحداث تغييرات جوهريّة في مستوى وعي الشعوب العربيّة بل تعدّاها إلى كل بلدان العالم الإسلامي. فالعمل السياسي والنضال السياسي والحركة السياسية في منطقتنا العربيّة ظلت على الدوام تتأثّر بتاريخية وأهمّية القضية الفلسطينيّة، في وعي ووجدان الشعوب العربيّة بل حتى في سياسات الأنظمة حتى ولو كانت الطروحات الثورية لبعض الفصائل الفلسطينيّة تثير حفيظتها بل تتعارض معها إلى حد بعيد. إنّ"سياسة"القضية الفلسطينيّة و"تسيُّس"الشعب الفلسطيني والتركيز المتواصل لفصائله على نسج علاقات سياسية مع كل البلدان العربيّة شكلت مناعة وتحصيناً لنوعيّة الصلات التي ربطت القضية الفلسطينيّة بوشائج علاقات أرقى بكثير من الانتماء التقليدي الديني والمذهبي. هكذا رأينا الجهود السعوديّة ومساعيها المثابرة والمساهمة المصريّة وتجاوب طهران وقبول دمشق كيف تمّ وأُنجز التوصل وبسرعة مدهشة إلى نتائج إيجابية كانت قمّتها اتفاق مكّة الأخير. إلا أنّ الأوضاع في بؤرتي التوتّر الاخيرتين ليست على الاطلاق كمثيلتها التي شهدناها في فلسطين. فالمنحى المذهبي الصارخ الذي لا لبس فيه للصراع الدموي الكارثي المتزايد في العراق هو أكثر منه مذهبياً من أن يكون سياسياً حيث لعب الاحتلال الأميركي وإسقاطه النظام 2003 دوراً مسؤولاً عن التردّي والتفسّخ الداخلي وسيطرة الإرهاب الذي يعاني منه العراق. ويميل الرأي العام العراقي، على رغم الانقسام المذهبي الى المزيد من رفض التدخّل الأجنبي، وعلى رغم محازبة معلنة لطهران للشيعة في الجنوب وتأثير دمشق على الأنبار والمنطقة الوسطى فقد أصبح واضحاً ومن المسلّم به بالنسبة إلى المواطن العراقي العادي أنّ جميع هذه الأطراف سواسية في الأزمة ومدى استغلالها الوضع العراقي الداخلي للحفاظ على مصالحها. إنّ أيّ استطلاع حرّ للرأي العام هناك ليدلّ على ازدياد كبير لدعاة هذا التوجّه. إلا أنّ إعادة لملمة الوضع العراقي تبدو مهمّة مستحيلة. ذلك أن فترة السماح التي قدّمها الأميركيون للإيرانيين لمزيد من التعاون داخل العراق وبخاصة في جنوبه وصلت إلى نهايتها، كما أن مثيلتها بالنسبة لسورية وما رافقها من إعادة العلاقات الديبلوماسية بين دمشق وبغداد والزيارة المميّزة للرئيس العراقي جلال طالباني لسورية لاقت المصير نفسه. فما تريده أميركا من إيران الآن هو بالضبط ما عبّر عنه الشعار الذي أعقب الخروج السوري من لبنان"سورية في سورية وإيران في إيران". إلاّ أنّ التنفيذ العملي لهذا الشعار يكاد يكون مستحيلاً الآن، ومن الصعب جداً أن ينسحب النفوذ الإيراني من جنوبالعراق، كما أنه من الصعب أيضاً ضبط الحدود السوريّة - العراقيّة في صورة محكمة حتى ولو جرى استحضار ألوية كرديّة للمساهمة في تحقيق ذلك. لقد كان لافتاً اعلان الحكومة العراقية أن 50 في المئة من أعمال الإرهاب هناك تقوم بها عناصر بشرية ترسلها دمشق وكأن ذلك كان إعلاناً عن دخول العراق مرحلة جديدة، لأنه مضت على أعمال التسلل هذه سنوات عدّة فلماذا الآن. أما في لبنان فتأخذ الأزمة الراهنة طابعاً مناقضاً ومختلفاً عن الأزمة الفلسطينيّة، ذلك أن لها عناصرها وسماتها المكوّنة الخاصة، وما يصحّ في فلسطين لا يصحّ بالضرورة في لبنان. فالدعم الإيراني المطلق والمساندة السورية المتواصلة يشكّلان في المرحلة الراهنة عامل ضغط لتزايد نفوذ"حزب الله". إلاّ أنّ نفوذ هذا الحزب وتصاعد أهمّية دوره محكومان بسقف طائفي ومذهبي مرتبط باللبنانيين الشيعة دون سواهم. ويفسح الموزاييك الطائفي والمذهبي اللبناني أمام"حزب الله"المجال لكسب بعض المؤيّدين من حلفاء النظام السوري لدى الطوائف والمذاهب الأخرى. إلا أنّ أداء"حزب الله"وسلوكه السياسي لا يدلّ على أيّة نوايا جدّية عنده للوصول بالأزمة إلى حلّ عملي وتسوية مقبولة من طرفي النزاع لا سيما أنّه يسعى باستمرار إلى رفع سقف مطالبه بحيث تحوّل مطلب قيام حكومة وفاق وطني على رغم تشدّده بحصوله وحلفاؤه على الثلث المعطّل رافعين مقترحات عمرو موسى إلى مطلب جديد أكثر صعوبة للتحقيق بضرورة المسارعة إلى إجراء انتخابات مبكرة... ويعيق حركة"حزب الله"هذه اضطراره للاستعانة بحلفاء ضعفاء في صفوف الطوائف والمذاهب الأخرى ممَّن همّ ليسوا قادرين على تحريك قواعد شعبيّة وازنة كتيّار العماد ميشال عون والمردة فرنجيّة في المناطق المسيحيّة فيلعبون دوراً فاعلاً في مؤازرته لإسقاط الحكومة كما يبدو مساندوه من السنّة أكثر ضعفاً من هؤلاء أيضاً. لقد أدّى منحى"حزب الله"الشيعي بامتياز والذي كان بحاجة ماسّة إليه للسيطرة الكلية على القرار الشيعي اللبناني من جهة وتوثيق ارتباطه بطهران إلى تحوّل عاملا القوة هذان إلى عامل ضعف وتقييد لحركته. صحيح أنّ"حزب الله"استطاع إيصال الاعتصام إلى بوابة السراي الكبيرة حيث الحكومة بعد استقالة الوزراء الشيعة جميعهم من الحكومة إلا أن خللاً ما في التخطيط بدا واضحاً عندما عجز يوم 23 كانون الثاني يناير عن الوصول إلى مرحلة أعلى كادت تؤدي إلى نشوب الحرب الأهليّة. وقد أكّدت الوقائع الميدانية يوم 25 بعدها بيومين مخاطر الانزلاق الكارثي هذا، لا بل يزيد وضع"حزب الله"حرجاً غرقه الفعلي وهدر قواه في شوارع بيروت وأزقّتها ما أفقده الكثير من ألقه المقاوم. بديهي أنّ الوحدة الاجتماعية المفقودة على الساحة اللبنانيّة قد تشكّل باباً مشرّعاً للقوى الخارجيّة لزعزعة الوضع اللبناني ودفعه إلى أتون حرب أهليّة، إلاّ أنّ استحالة إعادة تشكيل حكومة وفاق وطني تصبح في حال اندلاع الحرب الداخلية، وبالتالي الحفاظ على المؤسّسات للوصول إلى تسوية ليصبح أمراً مستحيلاً. فهل حقاً من مصلحة النظام الإيراني تفجير الوضع اللبناني الداخلي وهو ما زال يفاوض أميركا من خلال الرياض، وهل حقاً يريد النظام السوري الذهاب إلى مواجهة نهائية مع أميركا والاتحاد الأوروبي بصدد تفجير الوضع الداخلي اللبناني أي بالحرب. تلك أسئلة محقّة تتطلب الإجابة عنها الكثير من الدراية والقراءة في العمق والاستشراف. إنّ ما جرى في مكّة منذ أيام أنجز وتحقّق بفضل الوحدة الاجتماعية الفلسطيني التي لم تزل قائمة وقابلة للترميم على رغم التصدّع. وهذه الوحدة ما زالت هدفاً صعب المنال في لبنان ويكاد يكون مستحيلاً في العراق في المستقبل المنظور. * كاتب لبناني