خلال الفترة الرمادية من ولاية الرئيس إلياس الهراوي – أي من مطلع 1990 حتى آخر 1992 – شهدت الحدود اللبنانية – السورية فراغاً أمنياً استغلته سفارة إيران في دمشق لتمرير أعداد كبيرة من المتسللين الى لبنان. وسعى مركز الأمن العام في «المصنع» الى ضبط التجاوزات فلم يفلح، وذلك بسبب تساهل مركز «جديدة يابوس» السوري مع المتسللين الإيرانيين من دون تأشيرات دخول. وظل هذا الوضع المسيب قائماً طوال المدة التي تولى فيها علي أكبر محتشمي عملية دعم «حزب الله» عبر دمشق بالمدربين والخبراء العسكريين. صحيح أن خلفه السفير محمد حسن اختري أمضى 14 سنة في العاصمة السورية... ولكن الصحيح أيضاً أن محتشمي كان له الفضل الأكبر في تنظيم علاقة طهران ب«حزب الله» عبر سورية. وزير الخارجية اللبناني فارس بويز، كان يطلع يومياً على تقارير الأمن العام. واضطر آخر الأمر الى استدعاء سفير إيران لإبلاغه احتجاج الحكومة على الممارسات المسيئة لعلاقات البلدين. ووعده السفير بنقل ملاحظاته الى وزير الخارجية علي أكبر ولايتي. وبعد أسبوع وجه ولايتي دعوة رسمية للوزير بويز متمنياً عليه قبولها من أجل إرساء علاقات سليمة على المستوى السياسي والديبلوماسي. ولما أجابه الوزير بالإيجاب أصدرت طهران بياناً أشارت فيه الى أهمية تمتين العلاقات بين لبنان وإيران. وقد عبر الوزير بويز عن هذه الأهمية بالرجوع الى اتفاقية فيينا التي تنظم العلاقات بين الدول عبر القنوات الديبلوماسية. وطلب من ولايتي أن تراعي إيران حساسية الوضع اللبناني فلا تنحاز الى تيار أو طائفة أو مذهب لأن المكونات الطائفية ارتبطت بعقد التوافقية. واستناداً الى هذا التوافق، رأى بويز أن علاقة الدولة الإيرانية يجب أن تنحصر بالعلاقات المباشرة مع الدولة اللبنانية الممثلة لكل أطياف المجتمع. بعد شهرين لبى الوزير ولايتي دعوة بويز الذي رتب له برنامجاً رسمياً غطى كل مؤسسات الدولة، بدءاً برئاسة الجمهورية وانتهاء بمجلس النواب. ولكن البرنامج الخاص الذي وضعته سفارة إيران كان مختلفاً بحيث انه شمل لقاءات مع الجماهير الشعبية في الضاحية الجنوبية، إضافة الى كوادر تابعة ل«حزب الله». ويبدو أن الممارسات التي قام بها ولايتي على المستوى الشعبي هي الصورة الحقيقية المعبرة عن توجهات الجمهورية الإسلامية في طهران. وقد ظهرت في شكل بارز أثناء مؤتمر دعم الانتفاضة الفلسطينية الذي عقد في «فندق الاستقلال» في طهران خريف 1991. واتخذت في ذلك المؤتمر قرارات مهمة أيدها أربعمئة مندوب جاؤوا من لبنان وفلسطين وغانا ونيجيريا وتايلاند وبورما والسودان. ومع أن هاشمي رفسنجاني حاول في ذلك المؤتمر تبريد حرارة المتحمسين، إلا أن علي أكبر محتشمي، سرق منه زمام المبادرة وأعلن أنه في صدد بناء جيش إسلامي مؤلف من مليون مقاتل. وبعدما أعلن صراحة انه المؤسس والأب الروحي ل «حزب الله»، طالب المندوبين باختيار الموقع المفضل لنشر مليون مجاهد، مثلما فعلت الثورة الجزائرية التي نشرت قوات جيش التحرير على حدود تونس. وفي البيان الختامي، قرر الحاضرون معارضة مؤتمر السلام في مدريد ومواصلة الجهاد ضد الصهيونية وأصدقائها وحلفائها في المنطقة والخارج. ومع أن البيان تضمن فكرة بناء «جيش إسلامي» مؤلف من مليون مقاتل، إلا أن الممثلين عجزوا عن اختيار الموقع الملائم له. بوحي من توصيات ذلك المؤتمر، جرب الرئيس محمود أحمدي نجاد أن يمثل دورين مختلفين أثناء زيارته للبنان: الدور الرسمي الذي يرضي الدولة والحكومة والبرلمان... والدور الشعبي الذي يرضي «حزب الله» وأنصاره من المذاهب الأخرى. لهذا تعاطت الصحف العربية والأجنبية مع هذا الدور بكثير من التناقض. ففي مصر مثلاً نشرت صحيفة «روز اليوسف» شبه الرسمية، العنوان التالي: «اليوم الذي أصبحت فيه بيروت إمارة شيعية» وفي إسرائيل اختصرت «هآرتس» عناوين الجرائد الأخرى كالتالي: «زيارة نجاد للجنوب... رسالة الى واشنطن لتعرف من يسيطر على لبنان. ورسالة الى إسرائيل لتعرف أن حزب الله سيدافع عن إيران في حال تعرضها لهجوم خارجي. ورسالة الى اللبنانيين بأن يحذروا من اتهام المحكمة الدولية لحزب الله باغتيال رفيق الحريري». وحول الموضوع ذاته، كتبت «معاريف» تقول إن لبنان بعد زيارة نجاد أصبح محمية إيرانية. وكانت بهذا التلميح المبطن تشير الى الصمت الذي تعاملت به سورية مع الزيارة. وربما لم يكن صمتها من قبيل التجاهل المتعمد، علماً بأنه يبعث على الشكوك كون الصحف السورية انشغلت عن نجاد بتغطية زيارة رئيس وزراء العراق نوري المالكي. بعض المراقبين يؤكد أن صمت سورية عن الزيارة يقابله على الطرف الآخر صمت نجاد عن دور سورية في لبنان. فلا هي تحدثت عنه، ولا هو تحدث عنها في كل خطبه. وهناك من يقول إن لبنان لا يزال تحت المظلة السورية، وإن دمشق ترفض مشاركة إيران في هذا الفضاء السياسي الواسع. ومن هذا المنطلق يعرف سر التحالف الإيراني – السوري، على اعتبار أن كل دولة منهما تحترم مجالات سيطرة الدولة الأخرى. ومعنى هذا أن خطب نجاد خضعت لاستشارة سورية. تماماً مثلما خضعت زيارة المالكي دمشق. أي لاقتسام النفوذ في العراق الجديد، على أن تكون السيطرة السياسية الأمنية بيد إيران، بينما تأخذ سورية حصتها من غاز العراق ونفطه. يقول المراقبون الدوليون إن إيران حريصة على وضع العراق تحت وصايتها بحيث تحول دون قيام جارة قوية تمنعها من التمدد في المنطقة. ومثل هذا التوجه ليس حكراً على جمهورية الخميني، وانما ولد في عهد الشاه عام 1957. وكان في حينه المؤسس والمنظر باقر الصدر الذي خاصم عبدالكريم قاسم طوال مدة حكمه. ولما نجحت الثورة تبنت شعارات «حزب الدعوة» واحتضنت زعماءه وبينهم الدكتور إبراهيم الجعفري ونوري المالكي. وهي حالياً تنشط لدعم المالكي باعتباره يمثل امتداداً لطموحاتها الشيعية، مثلما كان يمثل اريك هونيكر في ألمانياالشرقية امتداداً لطموحات بريجنيف الشيوعية! اللقاء الذي تم في مطار قاعدة الرياض بين الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد، أعطي من التفاسير السياسية ما لم يكن في الحسبان. والسبب انه جاء خلال فترة حرجة يمر بها لبنان والعراق والقضية الفلسطينية. وذكرت مصادر سورية أن القمة تناولت العمل على تبريد الأجواء في لبنان بهدف نزع فتيل أزمة المحكمة الدولية، خصوصاً أن زيارتهما المشتركة لبيروت عززت روح التعاون لدرء مخاطر الفتنة المذهبية. وحول جدية هذا التعاون أعلن سفير المملكة في لبنان علي بن سعيد عواض عسيري، أن بلاده في عهد الملك عبدالله تنتهج سياسة التعقل والاعتدال وكل ما يجنب الأشقاء عوامل الخلاف والتفرقة. وعليه صدرت تحليلات توحي بأن الأزمة اللبنانية قد تتفاعل داخلياً لتصبح أزمة إقليمية تجذب كل اللاعبين الى ساحتها، وتحاشياً للسقوط في هذا المطب اندفع الرئيس نبيه بري عقب اجتماعه بالرئيس بشار الأسد، في إحياء خط التهدئة بين أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله والرئيس سعد الحريري، خصوصاً بعدما سرت إشاعات في الأندية السياسية تتحدث عن دنو ساعة الصفر لنسف حكومة الوحدة الوطنية بواسطة الثلث المعطل. ويقال في هذا السياق إن موضوع شركة «سوكلين» في مجلس الوزراء، لم يكن أكثر من «بروفة» لفرط عقد حكومة الحريري. وحول هذه المسألة الخطيرة، يتردد في أوساط «حزب الله» أن الجناح المتشدد يطالب بإسقاط حكومة الحريري مثلما أسقطت حكومة فؤاد السنيورة. علماً بأن الحكومة الحالية تشكلت بموافقة الحزب ومشاركته. كما انتهجت سياسة رسمية أعطت بموجبها «حزب الله» كل القرارات المتعلقة بالحرب والسلام. يبقى السؤال المتعلق باحتمال مقايضة دعم سورية لنوري المالكي في رئاسة الحكومة العراقية مقابل إطلاق يدها في لبنان؟! المعروف أن العلاقات السورية – العراقية قد تعرضت للاهتزاز بعد سلسلة من التفجيرات عام 2009 واتهام المالكي سورية بإيواء بعثيين متورطين بافتعالها. وأدت تلك الاتهامات الى سحب سفيري البلدين، والى مساندة دمشق لاياد علاوي ضد منافسه المالكي. ويبدو أن الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد لطهران قد غيرت مواقف سورية اثر اجتماعه بالمرشد علي خامنئي الذي منحه الوسام الأعلى للجمهورية الإسلامية. وقيل في حينه إن الوسام كان الثمن السياسي الذي دفعه خامنئي لدمشق مقابل موافقتها على تشكيل حكومة نوري المالكي. إضافة الى هذه المتغيرات، فان تأييد الزعيم العراقي المقيم في إيران منذ ثلاث سنوات مقتدى الصدر، قد خدم مصالح طهران في العراق عندما ساند موقف المالكي الذي بدأ يتعامل مع الأمر كأنه مصادقة على دوره الجديد. ويزعم الصدريون أن المالكي وعدهم بسبع وزارات، وبملء ألف وظيفة في الإدارات الرسمية. كما أطلق لهم منذ أسبوعين أعداداً كبيرة من المعتقلين. ومن المؤكد أن مرشد الثورة الإيرانية كان الضمانة التي أقنعت مقتدى الصدر بمصالحة المالكي بعد مواجهات البصرة ومدينة الصدر عام 2008. والطريف أن الأميركيين الذين خسروا أكثر من 4500 جندي، إضافة الى تريليونات الدولارات، وعدوا بالضغط على الأكراد لتأييد المالكي أيضاً. وهذا ما يجعل نوري المالكي مرتهناً لأكثر من جهة، في حين يبقى الممثل الحصري لسياسة إيران في العراق! * كاتب وصحافي لبناني