للسنة الثانية على التوالي يجد فادي نفسه مرغماً على ملازمة متجر والده لصناعة الحلويات يتعلم أسرار المهنة ويتجه قسراً لخلافته. فادي 29 عاماً وعلى رغم احترامه الشديد لوالده ولمهنته التي أمّنت دخلاً لائقاً للأسرة، استجاب بحماسة لأمنية الأهل أن يروه متعلماً وأستاذاً مرموقاً فتخصص في مادة الفلسفة في الجامعة اللبنانية في مدينة طرابلس. استهوته المادة ووجد في دراستها ووجد فيها الواحة الرحبة التي تتسع لزحمة تساؤلاته الفكرية والوجودية. وثابر في دراسته حتى نال شهادة الماجستير... لكنه سرعان ما وجد نفسه أمام معضلة لم يتوقف عندها جدياً وهو في نشوة غوصه في رحاب مدينة الفارابي الفاضلة. ببساطة لم يجد أي فرصة لممارسة اختصاصه لا في التعليم ولا في الأبحاث، ما جعله يقبل على مضض عرض والده بالعمل، موقتاً، معه فيوفر اجرة عامل ويغطي نفقاته الشخصية بانتظار الموسم التالي. حان الموسم التالي والمشكلة لم تحل. وجل ما يخشاه فادي اليوم، أن يتحول هذا العمل الموقت إلى قدر مهني فتذهب كل سنوات الدراسة هباء! بعض رفاقه الذين يشكو اليهم أمره، يلومونه على سوء اختياره لمجال تخصص"نخبوي"ولا يحظى، تاريخياً، بحظوظ جدية في ميادين العمل. لكن بعضهم الآخر يطيّب خاطره بالقول:"حالك أفضل من حال كثيرين". سناء 26 عاماً التي تخرّجت من كلية إدارة الأعمال في جامعة الروح القدس عجزت عن الفوز ولو بفرصة بسيطة في إحدى المؤسسات المصرفية أو التجارية فاكتفت بإدارة دكان الحيّ الذي يملكه والدها والذي يشهد تراجعاً سنوياً بسبب انتشار السوبر ماركت والمولات في المدن وحتى في البلدات والأحياء. ويعيش فراس 25 عاماً حالاً مشابهة، فالركود الاقتصادي دفع والده الى التخلي عن العامل الوحيد في مؤسسته التجارية الصغيرة، معولاً على همة إبنه الذي لم يحالفه الحظ بعد في ايجاد فرصة عمل منذ تخرجه من الجامعة اللبنانية برتبة مجاز في الأدب العربي. ولم يخيّب فراس أمل والده معتذراً من"سيبويه"ومن كل السنوات التي أمضاها مطارداً أشعار المتنبي ومفنداً روميات ابي فراس الذي عشقه لفروسيته وتشابه اسميهما. "كنت أظن أن هذا يحصل لغيري"تقول ميرنا 24 عاماً وهي خريجة المعهد الاميركي التكنولوجي AUT."فأنا تلميذة متفوقة اخترت علوم الكومبيوتر كاختصاص عصري لأنني أعشق كل جديد يحمله العلم والتكنولوجيا. لكنني وجدت نفسي بعد سنة من التخرج والبحث العقيم عن فرصة مرضية، أعمل سكرتيرة في معهد للتجميل... وأنا بصدد تعلم فنون تقليم الأظافر وإزالة الشعر الزائد لتدعيم مسيرتي المهنية الجديدة!". يواجه الشباب المتعلم في لبنان أزمة حقيقية. المئات، بل الآلاف يتخرجون سنوياً في الجامعات في الاختصاصات كافة. وبما أن البلد صغير ومشاكله كثيرة، فإن نسبة النمو الاقتصادي فيه بطيئة بل متعثرة بسبب حال عدم الاستقرار السياسي الذي يعاني منه، ما ينعكس سلباً على فرص العمل خصوصاً في أوساط حملة الشهادات فيدفع البعض منهم الى الهجرة والبعض الآخر الى الرضوخ، بعد ممانعة وتردد، الى ما هو متوافر كتعلم حرفة الآباء أو القبول من دون مكابرة، بأي فرصة متاحة طالما أن"الشغل مش عيب"وهدفه الأساس هو كسب العيش. أمام هذا الواقع، يتساءل بعض الشباب عن جدوى متابعة الدراسة ودخول الجامعات:"لماذا تضييع الوقت والمال؟"، يقول فؤاد"طالما أنني مرغم في النهاية على القبول بعمل قد لا يمت بصلة الى اختصاصي أو حتى بمستواه".