يفضل كثير من الآباء السوريين من أصحاب المهن المتميزة بمردودها المادي أو بالمكانة الاجتماعية الرفيعة التي تمنحها لممارسيها ان يورثوا مهنهم لأبنائهم عبر جذبهم منذ نعومة أظفارهم للعمل معهم، او حتى عبر اختيارهم الاختصاص الذي يؤهلهم بعد التخرج للعمل في مهنة آبائهم في المحاماة او الطب او الصحافة وشتى المهن التي تحتاج الى تأهيل أكاديمي معين. وعلى رغم عراقة هذا التقليد لدى اهل المدن السورية عموماً وإصرار عائلاتها على اختيار مهنة شبابها في المستقبل إلا انه اصبح يأخذ في هذه الأيام اهمية مضاعفة فرضتها في الواقع ظروف الاكتظاظ الكبير بالعاطلين من العمل وضيق السوق والجمود الذي يلف الحركة الاقتصادية، ثم وجود أعداد كبيرة من هؤلاء العاطلين بين اصحاب الشهادات المتوسطة والعالمية. والانخراط في حرفة تشكل مورد رزق اضحت بهذا المعنى ميزة لا يحصل عليها اي كان، كان يقول عبدالرحمن 27 عاماً: "إنها وسيلة عيش محترمة ومضمونة الجدوى في عصر يتصارع الآلاف على فرصة عمل واحدة في مسابقات التوظيف الحكومية"، ويضيف عبدالرحمن الذي اضحى يدير معملاً لقص الرخام ورثه عن والده: "تعلمت هذه المهنة القاسية في سن مبكرة اذ كان والدي يصطحبني عندما كنت في المرحلة الابتدائية الى الورشة لأراقبه وأتعلم اساسيات العمل منه، وعاماً بعد عام اصبحت اشاركه والعمال الموجودين بعض المهمات حتى اتقنت اصول المهنة بالتمام". وحال عبدالرحمن تشكل كما يبدو نموذجاً للشبان العاملين في الورش والأعمال التي تتطلب مقدرات عضلية كبيرة. ويتحدث عصام 32 عاماً عن ممارسته العمل في ورشة النجارة مع ابيه منذ نحو 17 عاماً. "الامر لم يكن في حينه موضوع رغبة او عدمها بل إن احداً منا نحن الاخوة الثلاثة لم يكن ليتجرأ ان يناقش الموضوع مع الوالد الذي كان يصطحبنا معه كل يوم الى الورشة بعد عودتنا من المدرسة، والآن بعد مرور هذه الاعوام اصبح لدى كل واحد منا ورشة متكاملة ومتطورة ولها حضورها في السوق فضلاً عن تعاوننا جميعاً في تقديم منتجاتنا في صالة عرض واحدة يشرف عليها الوالد بنفسه". تقليد صارم ويتحول هذا الحرص الأبوي على تعلم الابن مهنة العائلة الى تقليد متوارث صارم لا يجوز التخلي عنه، ليس لغايات مادية صرفة فقط تعين الشاب في حياته وتؤمن له مكانة اجتماعية مرموقة، وإنما للحفاظ على عمل الأب والجد فيتحول الموضوع الى نقل جزء مما اختصت به العائلة الى أبنائها، كما هي الحال مع ماجد 22 عاماً سليل إحدى العائلات الدمشقية العريقة. فالشاب على رغم امكانات والده الجيدة لا يعرف في هذه الحياة سوى العمل في مطبعة العائلة التي يدخلها عند التاسعة صباحاً ولا يغادرها قبل التاسعة مساء، ويصر ماجد المتزوج منذ عام تقريباً على التمسك بمواعيد العمل المقدسة لديه: "العمل له احترامه وأسسه التي يجب علينا التمسك بها، ولا يكفي ان نعتمد في مهنتنا على العمال مهما كان مستوى مهارتهم وإخلاصهم، لقد تعلمت خلال السنوات الطويلة التي قضيتها في المطبعة ان اعمل بيدي وقبل الآخرين مع انني استطيع ان اجلس في المكتب وأراقب العمل عن بعد...". ويتحدث ابو ماجد بدوره عن فلسفة خاصة جعلته يضع ابنه في ظروف عمل قاسية في قبو رطب ووسط مواد كيماوية وأحبار مضرة بالصحة حتى اتقن العمل في المطبعة التي يزيد عمر آلاتها عن ثلاثين عاماً: "كان باستطاعتي ان اعلمه في احسن الجامعات، والفرع الذي يريده، لكن مصلحة الولد هنا في المطبعة"، مضيفاً بصيغة العارف بالسوق: "يعني لو درس الطب او الهندسة دخلك شو يعني؟! يقضي عشرين سنة وراء الكتب والمحاضرات، إضافة الى سنوات اخرى حتى يصبح معروفاً، وفي كل الاحوال هذه المطبعة له يوسعها ويحدث آلاتها وكما يعطيها تعطيه". مهن مجزية ويبلغ الاصرار والتمسك بنقل الحرفة للابن ذروته في المجالات الاكثر دقة وجلباً للأرباح كتصليح السيارات وصياغة الذهب وبعض فروع التجارة... هنا يبدو من الصعب ان يدخل صاحب العمل احداً غريباً عنه، الاولوية للأبناء وأحياناً فقط للأبناء "لأنه من الصعب عليك ان تؤمن على رزقك بين ايدي غرباء عنك"، كما يقول الصائغ جورج، "فضلاً عن ان الصياغة مهنة نبيلة ورفيعة المستوى لا يمكن ان تعطي تقنياتها وتفصيلاتها لأحد من خارج العائلة". بينما يؤكد عبدالله 23 عاماً انه نادراً ما تجد صائغاً يشرك معه احداً غير ابنائه، "انا شخصياً تعلمت هذه المهنة من والدي الذي ارادني ان اعمل معه منذ كنت يافعاً، وفي الواقع انا لا احب هذه المهنة، كنت اتمنى متابعة تحصيلي العلمي ضمن دراسات ادارة الاعمال والمحاسبة، ولو خيرت لما كنت اخترت هذه المهنة، وحتى الآن لا اعتقد انها الأنسب لي". وخلافاً لتذمر عبدالله من مهنته يبدو سامي مرتاحاً الى العمل في ورشة إصلاح محركات السيارات التي يمتلكها والده، "اكتسبت خلال السنوات الخمس الماضية خبرة جيدة في العمل تجعلني اعتمد على نفسي في التعامل مع حالات الاعطال التي تأتي الينا"، ويضيف: "حرص والدي بعد إخفاقي في الثانوية مرتين على العمل معه في المحل، طبعاً كنت آتي من قبل يومياً خلال العطل الصيفية المدرسية الى الورشة وبالتالي لم اكن غريباً عن طبيعة العمل". "المعلم" مصطفى 38 عاماً الذي تعلم كهرباء السيارات منذ عشرين عاماً في احد المعاهد ثم في الورشات يصر منذ الآن على تعليم ابنه اليافع المهنة مقتنعاً بأنه يساعد الفتى على اختيار مستقبله المهني "في وقت اصبح من يملك مصلحة افضل ممن يحمل الشهادات". ويضيف "أبو صطيف" كما يناديه زملاؤه وزبائنه: "يأتي ابني معي في شكل دائم ايام العطل المدرسية وبعد الدوام احياناً بخاصة ان المحل ليس بعيداً من المنزل". ولا يختلف المشهد كثيراً لدى الآباء من اصحاب المهن الارفع مستوى اجتماعياً. الفارق هنا ان الابن يحتاج الى تحصيل علمي لا يمكن الحصول عليه بسهولة كي يتمكن من الالتحاق بالفرع الذي يؤهله للعمل في مهنة الأب. يقول منذر 29 عاماً: "غرس والدي في نفسي حب المحاماة منذ الصغر، فأصبح هدفي منذ المرحلة الابتدائية دخول كلية الحقوق ثم اعمل في المحاماة، مع العلم ان امكاناتي العملية ودرجاتي في الشهادة الثانوية اتاحت لي دخول كلية الطب وهي اعلى الكليات في جامعة دمشق". ويضيف منذر الذي يعمل في مكتب والده منذ اربع سنوات: "لم اشعر يوماً بأن والدي فرض علي اختيار المحاماة مهنة لي على رغم انه صاحب الفضل علي في عشق دراسة القانون، والأهم من ذلك انه اخذ بيدي ولا يزال في العمل، ثم ان نجاحي المهني الآن اعتمد بدرجة كبيرة جداً على خبرته وعلاقاته التي بناها خلال ثلاثين عاماً، طبعاً انا اعمل وأتابع القضايا بنفسي لأزيد خبرتي يوماً بعد يوم لكن في مهنتنا هذا لا يكفي، فلدي زملاء تخرجوا معي في الجامعة وما زالوا الى الآن في مرحلة مبتدئة!". إلا أن هذا التوافق بين منذر وأبيه لا يشكل تعميماً يمكن الاعتماد عليه في هذا الاطار، فهناك تجارب كثيرة تخالف تلك التجربة. فأحمد مثلاً فرض والده الطبيب عليه دراسة الطب البشري مع انه يعشق التمثيل والمسرح، ويؤكد احمد 26 عاماً "بالطبع الطب مهنة انسانية وتؤمن مستوى اجتماعياً ومادياً عالياً، إلا انها لم تكن يوماً رغبتي، لقد اخترت هذا الفرع ارضاء لوالدي الذي يلح علي الآن من اجل المتابعة في الاختصاص اي ثلاث سنوات اخرى من الدراسة!". والحال تتشابه ايضاً مع سناء خريجة الحقوق التي أعدها والدها المحامي لمساعدته في مكتبه المزدهر بالعمل. وتقول: "كان حلمي وما زال العمل كإعلامية في احدى المحطات، وقد خضعت بالفعل لاختبارات ناجحة من اجل العمل في التلفزيون السوري، الا ان والدي كان يصر على رفض اي عمل خارج اطار مكتبه، الامر الذي فوت علي فرصة عمل طالما حلمت بها وقد لا تتكرر في ظل ندرة مثل تلك الفرص".