العين الثالثة لم تحظ رواية دوريس ليسينغ الأخيرة بمراجعات ايجابية وإن أرضاها بعض النقاد بالقول ان كتابتها أنقذت كتابها الخمسين من كارثة. انطلقت ليسينغ من تقرير علمي يدعي ان الحياة بدأت واستمرت بالنساء ثم لحق الرجال بهن"كفكرة متأخرة". الكاتبة التي ولدت في ايران وعاشت في روديسيا ثم انكلترا عرفت بواقعيتها الاجتماعية والنفسية، وبدا الخيال العلمي في"الشق"الصادرة عن فورت استيت تجربة حائرة. تعيش نساء الرواية على صخرة كبيرة ويلدن اجيالاً من الإناث بعد ان يحملن من القمر والموج. عندما تلد إحداهن ذكراً يوماً يصيبهن اختلافه بالذعر ويعتقدنه مسخاً. يشوّهن الأطفال الذكور ويتركنهم للنسور، لكن هذه تنقذ بعضهم وتعهد بهم الى انثى ظبي ترضعهم في واد مجاور. فيشكلون قبيلة تتسم بالمغامرة والتجول والصناعة في حين تبقى النساء حالمات خاملات شاكيات. عندما صدر"دفتر الملاحظات الذهبي"في 1962 رفضت ليسينغ اعتبارها من بطلات الحركة النسوية، وانتقدت رغبة نسويات في النضال حتى بلوغ"فجر ذهبي لا يعود معه وجود لهؤلاء الرجال البهيميين". دعت النساء الى التوقف عن التسبب بالمشاكل للرجال وكرهت النسويات اللواتي يرفضن النقد الذاتي. تلتبس شخصية الأم في ادبها وحياتها. تتذكر خيبة والدتها من فقر الأسرة في جنوب روديسيا والمرارة التي خيّمت على والدين جلسا امام البيت تحت غيمة من الاستياء ودخان السجائر. بات رفضها والدتها شعار مراهقتها، وأقسمت ألا تكون مثلها ابداً. ولدت دوريس تيلور في 1919 لأب خسر رجله وأم فقدت حبيبها في الحرب العالمية الأولى. حضّرتها بيئتها لتكون روائية. الكتب التي طلبتها والدتها من لندن، سلوك والديها المفرط في بريطانيته، والعين الثالثة التي تظلل من يعيش خارج وطنه. عاشت بين حياتين: ما رأته حولها من قرأت عنه، وفي الرابعة عشرة تركت المدرسة بداعي المرض ولم تعد. ضجرت من الشجار مع والدتها فهربت الى سولزبري لتعمل على مقسم الهاتف وتشرب وتدخن وتسهر. تزوجت موظفاً يكبرها بعشر سنوات وأنجبت طفلين واختلطت بالهاربين من النازية الذين كان احدهم غوتفريد ليسينغ. تركت زوجها لتتزوج الألماني الشيوعي الذي ربحها لحزبه وهي في الرابع والعشرين وخسرها شريكة بعد اعوام. قبل ان تبلغ الثلاثين تركت ابوين وزوجين وطفلين، وركبت السفينة الى بريطانيا مع طفلها من زوجها الثاني ومخطوطة"العشب يغني". لم يكن الزواج احدى مواهبها، لكن الأمومة؟ كتبت في مذكراتها"تحت جلدي"و"السير في الظل"ان جان جاك روسو وضع اطفاله في بيت اللقطاء بنية حسنة. سينشأون هناك افضل مما على يديه، قال. عندما قرأت الكاتبة مذكراتها اخيراً دهشت."على الأقل أشعر بالخزي من كذبي على نفسي". جعلتها"العشب يغني"وهي عن التمييز العنصري في روديسيا، والكتب اللاحقة من ابرز كتّاب الإنكليزية في القرن العشرين، وكان للشيوعية والصوفية النفوذ الأكبر على حياتها. تعترف اليوم بجذل، وهي في السابعة والثمانين، ان الأولى كانت خطأ كبيراً، لكنها تبقى معجبة كبيرة بكتاب"الصوفيين"لإدريس شاه الذي ألهمها شخصياً ومهنياً مذ قرأته في 1964. تحس انها عاشت اطول مما يجب، وتستعد لكتابة روايتها الأخيرة. على انها لن تبوح بكل شيء لأن افكارها في هذه السن"مخربة تماماً". شرط السعادة ثلاثة كتب دفعة واحدة لفرانز كافكا في بريطانيا."تحول وقصص أخرى"عن دار بنغوين"قصص مختارة"عن دار نورتن و"أقوال زوراو"عن هارفل سيكير. كان الكاتب التشيخي سوريالياً، فرويدياً، ماركسياً، بنيوياً وما بعد بنيوي، وأثارت أعماله التي تبدو سهلة تفسيرات كثيرة. في قصة"تحول"يصبح غريغور سامسا فجأة صرصاراً ضخماً فيسجنه اهله في غرفته لكنه يفكر في طريقة للتخلص من ورطته. المشكلة جدية لكنها غير ميؤوس منها وعليه ان يذهب الى عمله ولكن كيف؟ في"الحكم"التي كتبها في ليلة واحدة بعد سنوات من المحاولات الفاشلة يكتب غورغ بندمان رسالة الى صديق طفولة لكنه يتردد في إخباره عن خطبته. يستشير والده فيهاجمه، ويكتشف القارئ ان الشاب اغتصب ربما عمل ابيه وأهمله وأحب فتاة تطمع بماله. يبدأ كافكا بفعل يومي صغير يؤدي الى حال ضبابية لا نعرف اياً من الرجلين يعاني منها، وتنتهي القصة بحكم الأب على ابنه بالموت غرقاً وتنفيذ الحكم. تبدو قصص كافكا اكثر اكتمالاً وتماسكاً من رواياته، واعتقد هو بأن كتابته شيطانية فأوصى صديقه ماكس برود بحرقها قبل موته بالسل في 1924 عن أربعين عاماً. عصى برود الوصية واحتفظ بالأوراق بما فيها"أقوال زوراو"التي نُشرت وتُرجمت سابقاً. قصد كافكا قرية زوراو، شمال بوهيميا، في 1917 ليمضي فترة نقاهة هناك مع شقيقته التي أدارت مزرعة. بقي نصف عام كان من اسعد ايام حياته ثم عاد الى براغ حيث عمل في شركة تأمين. يتحدث جامع الأقوال عن فرادة هذا الشكل، لكنها تقليد في الأدب الألماني نجده عند لكتنبرغ وشوبنهاور ونيتشه. يتناول كافكا الشر والموت والدين وقلقه من الجنس، لكنه يمرح ايضاً."نظرياً هناك إمكان كامل واحد للهناءة: أن تؤمن بما لا يدمر في نفسك ثم تتوقف عن البحث عنه"."في الصراع بينك وبين العالم، ايّد العالم". السيدة فرويد في آب اغسطس 1898 ارسل سيغموند فرويد بطاقة بريدية من جبال الألب الى زوجته مارتا في فيينا ذكر فيها جمال الأنهر الجليدية. لكن ابا التحليل النفسي لم يكن وحده في الفندق وفق الباحث الألماني فرانز ماسيجوسكي بل مع زوجته! كشف سجل النزلاء ان"الدكتور سيغم فرويد وزوجته"شغلا غرفة مزدوجة ثلاثة ايام ذلك الشهر، على ان اسم السيدة كان مينا، شقيقة الزوجة، لا مارتا. اعتقد كثيرون بأن كارل يونغ، المحلل النفسي السويسري، كان يشهّر بفرويد عندما قال في 1907 ان مينا أخبرته انها تشعر بالذنب من جراء علاقتها مع فرويد. شك البعض في العلاقة من دون ان يجدوا ادلة دامغة، وذكر المؤرخ البريطاني بيتر سويلز ان مينا حملت من فرويد وأجهضت الطفل في 1900. تزوج فرويد مارتا برنيز في 1886 وأنجبا ستة أولاد في خمسين عاماً تشاجرا فيها مرة واحدة حول ما اذا كان الفطر يطبخ بجذعه او من دونه. بعد عشرة اعوام دخلت مينا بيت فرويد وبقيت فيه، وانتقلت مع الأسرة الى لندن هرباً من المحرقة، على ان فرويد توفي بالسرطان في 1939 عن ثلاثة وثمانين عاماً. بحثت مينا مع فرويد في الدوافع الجنسية لمرضاه لكن مارتا نفرت من هذا الجزء من عمل زوجها ودعته"خلاعة". عرف عن العالم النفسي إخلاصه لزوجته وانفتاحه في الحديث عن حياة مرضاه في الوقت الذي تكتم على حياته. الاكتشاف، إذا صح، يثير الشك فيه كعالم لكنه يجعله اكثر اثارة للاهتمام كإنسان وفق المؤرخ سويلز. باعت كتبها اكثر من كتب هنري جيمس، لكن، اديث وورتن اعتبرت قديمة الطراز قبل رحيلها في 1937 عن خمسة وسبعين عاماً. سيرة عنها لهرميون لي شاتو اند وندوس تتبع حياتها وأدبها الذي حفل بالفرص الضائعة والخسارة والكتمان العاطفي والأمهات الباردات المتسلقات اجتماعياً. قامر زوجها بأموالها واتخذ عشيقة فاحتملته ثمانية وعشرين عاماً قبل ان تطلقه. كانت في السابعة والثلاثين عندما اتخذت الأدب مهنة، وجعلها"بيت المرح"كاتبة معروفة لكن علاقتها بمورتن فولرتن التي عرفتها الى الألم والإهانة رفعت قدرتها على الكتاب درجات. تردد انه احب الجنسين وأقام علاقة مع قريبة نشأت معه كشقيقة، على ان علاقته السريعة مع اديث علمتها"ما تشعر به النساء السعيدات". كانت بالغة الثراء والكرم، وساعدت مواطنها هنري جميس بثمانية آلاف دولار عندما عزت كآبته الى ضائقة مالية. عاشت في فرنسا وحثت اميركا على مساعدتها في الحرب العالمية الأولى. عملت في جمعيات خيرية عدة لمساعدة الأيتام واللاجئين وجمعت التبرعات، ورأت ان وظيفة الكاتب ان يكون شاهداً. مؤلفة"زمن البراءة"و"جناح يمامة"و"السفراء"آمنت برسالة فرنسا في الحضارة وبسقوط الحضارة الغربية كلها في حال سقوطها.