وصلت جائزة نوبل للآداب متأخرة الى الروائية البريطانية الكبيرة دوريس ليسينغ التي تكمل الثامنة والثمانين خلال أيام. هذه الروائية التي تعدّ الأكبر سناً بين الفائزين بالجائزة العالمية منذ تأسيسها في العام 1901 ورد اسمها بين المرشحين قبل سنوات ثم كاد أن يُنسى. لكنّ الأكاديمية السويدية تذكّرتها هذه السنة ومنحتها الجائزة تقديراً لأعمالها التي تفوق خمسين كتاباً ولنضالها السياسي والاجتماعي الذي امتدّ أكثر من خمسين عاماً. ووصف بيان الجائزة دوريس ليسينغ ب"الراوية الملحمية للتجربة النسائية، التي سبرت غور حضارة منقسمة على نفسها، معتمدة الشك والحماسة والقدرة الرؤيوية". راجع ص 13 تلقت الروائية النبأ السعيد الذي انتظرته طويلاً في منزلها شمال لندن، المدينة التي زارتها للمرّة الأولى عام 1949 هي التي ولدت في إيران أو بلاد فارس كما كانت تسمّى عام 1919 من أبوين بريطانيين، ثم عادت اليها لتستقرّ فيها نهائياً في السادسة والثلاثين من عمرها، ولتنطلق في عالم الكتابة"رسمياً". لكن عائلتها ما لبثت أن غادرت إيران الى روديسيا زيمبابوي حالياً وهناك عاشت حتى الثلاثين، ثمّ غادرت بحثاً عن حياتها الشخصية وهرباً من أمها التي طالما واجهتها وكنّت لها مقداراً من البغضاء. وكان والدها أصيب في الحرب وفقد إحدى ساقيه وغدت حياته مأسوية. لكنّ الفتاة اكتشفت في تلك البلاد عالم الطبيعة الأفريقية وأدركت مآسي الناس الفقراء والمحرومين والمضطهدين عرقياً وسياسياً. هذا العالم وهذه المآسي ستظهر لاحقاً في معظم رواياتها ولا سيما في سيرتها الذاتية التي كتبتها متقطعة في سلسلة من الأعمال السردية. في روديسيا لم تتحمل الشابة سياسة التمييز العنصري التي كان يمارسها البريطانيون المستعمرون. فهاجرت الى وطنها الأول الذي لم تولد فيه والتحقت بصفوف الشيوعيين البريطانيين لبضعة أعوام ثمّ تركتهم بعدما سقطت أوهام الشيوعية أمام عينيها. عاشت دوريس ليسينغ حياة صاخبة، ملؤها الاضطراب والنضال والالتزام. تزوّجت مرتين وأنجبت أولاداً ثلاثة وقضت فترة من الهروب، ليس من العائلة والأم فحسب، بل من الحياة نفسها. عرفت مرحلة من اللهو والعمل الوظيفي وكادت تقع في الإدمان ثم غادرت نحو مرحلة جديدة كانت الكتابة فيها بمثابة الخلاص. عرفت دوريس ليسينغ الشهرة الأدبية منذ أن أصدرت روايتها الأولى"العشب يغني"عام 1950، ومنذ ذلك العام راحت تؤسس عالمها الروائي، جامعة بين الالتزام السياسي والاجتماعي والكتابة الجريئة التي لا تهادن ولا تهاب أي محظور أو ممنوع. وسمّيت"الصوت الافريقي الأبيض"الذي يدافع عن حقوق السود وينتقد الاستعمار والتمييز العنصري والاضطهاد والظلم. وهذه القضايا الانسانية والسياسية شكلت الموضوعات الرئيسة في معظم رواياتها، علاوة على قضية المرأة التي شغفت بها ولكن من غير أن تصبح صوتاً نسوياً، يتصنع الدعوة الى تحرير المرأة من القيود المفروضة عليها. وغدت روايتها الشهيرة"القطرس"أشبه بالمرجع للحركة النسائية في بريطانيا والعالم الانغلوفوني. لم تشأ ليسينغ أن يتحول دفاعها عن المرأة الى موقف يماثل المواقف الذكورية، فسعت الى كتابة روايات تفيض بالحبّ، لا سيما الحبّ بين العرقين، الأسود والأبيض، إضافة الى القصص"الغرامية"المعقّدة والمستحيلة في أحيان. لكنها في رواية"الصدع"سعت الى فضح"وحشية"الرجل في مقاربة سردية"غرائبية". عالم دوريس ليسينغ شاسع حقاً. هذا ما يقوله النقاد الذين ينقسمون حول أدبها. وتتراوح أعمالها بين السرد الروائي والسيرة الذاتية. ولعلها من الكتاب النادرين في مجال السيرة، وقد استطاعت أن تصنع من تفاصيل حياتها ما يشبه الملحمة، موزّعة إياها في كتب توالت على تأليفها واحداً تلو الآخر. ولم تهمل الأدب"الخرافي العلمي"مضيفة اليه الكثير من السخرية والفانتازيا. كاتبة واقعية ولكن في المعنى الرحب للواقعية، لم تألف النزعة الرومنطيقية و"العاطفية"ولم تسع الى تجميل العالم ولا الى تبرئة سلوكها لا سيما في فترة الفتوّة. وقد يشعر قارئ رواياتها الافريقية بأنه إزاء كاتبة"خلاسية"، نجحت في المزج بين كيانها كامرأة بريطانية وكمواطنة تنتمي الى العالم الهامشي والبائس. "أشعر بأنني شابة"تردد دوريس ليسينغ. وهذا ما ستظل تردده بعد فوزها بجائزة نوبل وإن على حافة الثامنة والثمانين. فهذه المرأة التي أحبّت الحياة منحها حبها للحياة قدرة فائقة على مواجهة المآسي التي لا تخلو الحياة منها. الكاتبة التي عرفت شهرة واسعة في العالم لم تترجم الى العربية جيداً، والقراء العرب يكادون يجهلون أدبها. وكانت صدرت روايتها الأولى"العشب يغني"في سلسلة روايات"الهلال"في القاهرة قبل أعوام.