هل بدأت الولاياتالمتحدة تتراجع عن طموحها الى التحكم مباشرة، وبالقوة العسكرية بمقدرات الشرق الأوسط؟ وهل بدأت رحلة العودة الى سياسة التعايش مع أزماته وإدارتها بمشاركة الحلفاء والأصدقاء؟ السؤال مشروع لأسباب كثيرة أهمها النتائج الكارثية لاحتلال العراق. وفشلها، مع اسرائيل حتى الآن، في تغيير الواقع اللبناني. واستنتاجها ان الديموقراطية فرصة ثمينة لأعدائها للوصول الى الحكم. وكانت التجربة في فلسطين خير مثال على ذلك. أما الديموقراطية اللبنانية فأجبرت الحكومة التي تدعمها واشنطن على مشاركة المقاومة في السلطة وتضمين بيانها الوزاري اعترافاً بها. الملاحظ ان هذا التغيير بدأ مع مقاربة الأزمة اللبنانية. بعدما كانت إدارة بوش تعارض أي تدخل لفرنسا في شؤون المنطقة، تعاونت معها في استصدار القرار 1559، قبل اغتيال الحريري، ثم في استصدار القرارات الأخرى الخاصة بالمحكمة الدولية، و"إنهاء العمليات العدائية"، خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز يوليو الماضي، وهي لا تمانع في إجراء مفاوضات مع ايران، شرط ان تقتصر على الملف العراقي. وبعدما كانت تعارض أي تدخل عربي في الصراع مع اسرائيل، ولم تعر المبادرة العربية أي اهتمام، ها هي الآن تتغاضى عن رعاية المملكة العربية السعودية للاتفاق الفلسطيني - الفلسطيني. أي أنها أقرت، عملياً، بحق حركة"حماس"بالمشاركة في الحكم. صحيح انها، واللجنة الرباعية، وضعت شروطاً على حماس منها: الاعتراف باسرائيل وبالاتفاقات المبرمة معها، والتخلي عن العنف، وصحيح ايضاً ان الحركة أقرت مواربة بعض هذه الشروط من خلال تأكيدها احترام قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية، من دون ان تصل الى حدود الاعتراف بالدولة العبرية. لكن الصحيح ايضاً ان واشنطن مضطرة الى الاعتراف بالواقع الجديد، وبالاتفاق الذي رعته الرياض. رئيس"مجلس العلاقات الخارجية"الأميركي ريتشارد هاس، ينصح البيت الأبيض بالتعايش مع الأزمة، مستعيراً من المؤرخ البرت حوراني قوله:"من يحكم الشرق الأوسط يحكم العالم. ومن لديه مصالح في العالم محكوم بالاهتمام بالشرق الأوسط". فورين أفيرز - عدد كانون الأول/ ديسمبر الماضي. ويتابع ان الثورة الايرانية التي أطاحت إحدى ركائز الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، أكدت ان الخارج لا يستطيع التحكم بمجريات الأحداث. وهذا ما أكدته مقاومة العرب لمحاولات الولاياتالمتحدة اقناعهم بالتحالف معها في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق. أما الاحتلال الاسرائيلي للبنان عام 1982 فنتج عنه صعود مقاومة بزعامة"حزب الله"تصدت وما زالت لمخططات واشنطن وتل ابيب. ويخلص هاس في مقاله الى ان شرق أوسط تسوده الفوضى والحروب والارهاب مختلف عن شرق أوسط يسوده السلام. وهناك فرق، ايضاً، بين شرق أوسط يحتضن ايران القوية وآخر تهيمن عليه ايران. وينصح واشنطن بالتخلي عن نشر الديموقراطية، وبالتعلم من تجربتها العراقية، والتجربة الاسرائيلية في لبنان، وعدم الاعتماد على قوتها العسكرية التي أثبتت فشلها، وكانت بداية النهاية للعصر الأميركي في الشرق الأوسط، مثلما كانت حرب الخليج الثانية غزو الكويت بداية هذا العصر. مؤشرات كثيرة تنبئ بأن الولاياتالمتحدة بدأت فعلاً مرحلة جديدة في تطبيق استراتيجيتها، من المبكر تسميتها مرحلة الانكفاء، فهي حتى الآن مراجعة محسوبة للاخفاقات والنجاحات، قد تكون تراجعاً غير معلن عن الضربات الاستباقية، لكن الأكيد انها ستعتمد على الحلفاء والأصدقاء أكثر، وستتيح لمن تسميهم المعتدلين هامشاً من التحرك لاحتواء الانفجارات الكبرى، والتعايش مع الأزمات وإدارتها.