من الطبيعي القول هنا إن فيلم «كفرقاسم» (1973) للمخرج برهان علوية، يعتبر علامة أساسية ونقطة انعطافية في تاريخ السينما اللبنانية الجديدة. بكلمات أخرى، كان هو الفيلم المؤسس لجيل سينما الحرب، ولما تلى هذا الجيل من أجيال في التاريخ المتواصل لهذه السينما منذ بداية سنوات السبعين، حتى وإن كانت ثمة أسباب كثيرة تدفعنا الى وضع «بيروت يا بيروت» لمارون بغدادي في هذه المكانة. ولإدراك بعض هذه الاسباب حسبنا أن نعرف هنا أن «كفرقاسم» على رغم لبنانية مخرجه، هو فيلم سوري عن القضية الفلسطينية: انتاجه سوري، صوّر في سورية عن رواية وثائقية كتبها الأديب والصحافي السوري الراحل عاصم الجندي، مع ممثلين سوريين وفلسطينيين وبعض اللبنانيين. أما أحداثه فتدور في فلسطين عام 1956 أيام ما تم التعارف على تسميته «العدوان الثلاثي» على مصر، حيث ارتكبت القوات الاسرائيلية في قرية «كفرقاسم» الصغيرة واحدة من مجازرها البشعة. إذاً ليس «كفرقاسم» فيلماً لبنانياً، إلا بهوية مخرجه. غير أنه في الوقت نفسه يصلح ليشكل أمارة على الاطروحة التي تتحدث عن تنوع السينما اللبنانية وكوزموبوليتها، هي التي كانت، بأشكال أو أخرى، قد استبقت ولادة السينما الفلسطينية على أيدي مبدعين فلسطينيين، وفي أفلام لبنانية متنوعة. «كفرقاسم» هو، إذاً، من نوع المشاريع السينمائية التي طورت علاقة السينمائيين العرب بفلسطين في زمن كان من الصعب فيه التفريق بين مبدع عربي وآخر في الاهتمام بالقضية وتاريخها. ومع هذا أتى «كفرقاسم» مختلفاً عن كل ما سبقه، وبخاصة عن الفيلم السوري/ الفلسطيني الآخر الذي حقق قبله بفترة ويعتبر معه، التأسيس الحقيقي للسينما الفلسطينية الجادة، البعيدة من الثرثرات الثقافية ومغامرات رعاة البقر والميلودرامات العاطفية التي كانتها الأفلام العربية المهتمة بالقضية الفلسطينية قبل أن يدخل المبدعون الفلسطينيون أنفسهم على الخط، ونعني به فيلم «المخدوعون» للسينمائي المصري المتميز توفيق صالح، عن قصة «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. من هنا كان من المنطقي لبرهان علوية العائد حديثاً، آنذاك، من دراسته السينمائية في بلجيكا، مقدماً نفسه في لبنان كمناضل من طريق السينما – كما حال مجايليه جميعاً، من المؤسسين أمثاله – ان يختار، وفلسطين كانت أضحت «جزءاً من لبنان» في ذلك الحين، موضوعاً فلسطينياً لفيلمه الروائي الطويل الأول، معلناً فيه أن السينمائي اللبناني الحقيقي هو سينمائي يخوض المواضيع العربية مثلما يخوض الموضوع اللبناني. وهكذا ولد هذا الفيلم الذي، الى مزاياه الخاصة، سيكون أول إطلالة سينمائية «لبنانية» على العالم الخارجي، بالمعنى الجدي للسينما، منذ أطل جورج نصر – وإن في مجال آخر – في الخمسينات من القرن الماضي من خلال «الى أين؟». يتناول «كفرقاسم»، إذاً، حكاية تلك المجزرة التي حدثت يوم 29 تشرين الأول – اكتوبر 1956، حيث في خضم العدوان الاسرائيلي – الانكليزي – الفرنسي على مصر، وتحسباً من ردود فعل في القرى الفلسطينية ولا سيما في «كفرقاسم»، صدر قرار بمنع التجول، كان من الصعب إبلاغه للفلاحين المنهمكين في زراعة أراضيهم. وهكذا حين كان هؤلاء راجعين لا يعرفون شيئاً عن الأمر، قتل رجال حرس الحدود الاسرائيليون 47 عربياً من أهل القرية، بدم بارد ومن دون أي مبرر، بينهم 7 أطفال و9 نساء. هذه المجزرة، التي باتت معروفة، وتشكل واحدة من الوصمات التي تلطخ جبين الدولة الصهيونية، ذكرها صبري جريس على هذا النحو – مع بعض التفاصيل الأخرى – في كتابه «العرب في اسرائيل»، فشكلت على هذا النحو، وثيقة سياسية لا مجال لنقضها. كما شكلت من جهة ثانية خلفية حدثية، كانت جاهزة أمام برهان علوية، على شكل رواية وضعها عاصم الجندي، باسم كفرقاسم. وبقي على المخرج اللبناني الشاب، أن ينطلق من هذه الوثيقة، بإطارها الحدثي، لصوغ فيلم سياسي، يشكل واحدة من المحاولات الجادة على طريق إنشاء سينما سياسية عربية واقعية، تسير في خط مواز مع السينما «التجارية» العربية التي تزكم أنوفنا ليل نهار. إذاً، كان أمام علوية حدث مروي في شكل وثائقي، وكانت أمامه قضية يمكن التعبير عنها انطلاقاً من هذا الحدث – الوثيقة... فحقق فيلمه الأول «كفرقاسم»، ليفوز حتى الآن بثلاث جوائز، عدا عن تقدير معظم النقاد والمهتمين الذين شاهدوه حتى الآن. غير ان القيمة الحقيقية لهذا الفيلم، لا تنبع من تناوله الروائي للمجزرة، بل من استخدامه المجزرة، وتصويرها في فيلم «سياسي» أراد منه أن يخرج من الحدث نفسه، ليغوص في صلب القضية، ليس فقط في بعدها التاريخي، بل أيضاً بارتباطها المستمر بالحاضر. ومن هنا يمكن تقسيم فيلم «كفرقاسم» الى قسمين رئيسين: القسم الأول الذي انطلق من قرية كفرقاسم ليعتبرها رمزاً، أي ليقدم من خلال تناقضات الحياة اليومية العادية جداً في هذه القرية، صورة، ان لم يكن للمجتمع العربي ككل، فعلى الأقل للداخل الفلسطيني. بمعنى أن القسم الأول من الفيلم لم يتحدث عن قرية كفرقاسم، بقدر ما عكس الوضع العربي من خلال هذه القرية. وهكذا عرض لنا، بأسلوب مكثف وبسيط، نماذج للشخصيات والصراعات الموجودة على امتداد الداخل الفلسطيني، من دون أن يلجأ الى إضافة أي عنصر درامي أو تشويقي ينبئ بحتمية وقوع المجزرة. هذا القسم بدأ في الفيلم، بالخطاب الذي ألقاه عبدالناصر في تموز (يوليو) 1956، وأعلن فيه تأميم قناة السويس. من خلال هذا الخطاب، ومن خلال ردود الفعل عليه في مقهى «أبو أحمد» في ساحة القرية، عرفنا الفيلم على وتيرة التفكير السائد، على خلافات – ذات طابع قبلي، أكثر منه ايديولوجياً – على المعاناة التي يقاسيها سكان الأرض المحتلة، على موقفهم من الرجعيات العربية، وعلى التمييز العنصري الذي تمارسه السلطة الصهيونية ضدهم. كذلك عرفنا على نماذج من المتعاونين العرب مع الصهاينة (رجا، المختار... الخ) وعلى موقف الشيوعيين والناصريين من القضية برمتها، مؤكداً سطحية الخلاف بينهم، بسبب انطلاقهم معاً من الأرضية الطبقية والقومية نفسها. وفي النصف الأول كذلك عرض علينا الفيلم مسألة الاستيلاء على الأراضي، ومسألة الهجرة والاغتراب والتهويد، وغربة عرب الأرض المحتلة تجاه الجديد الذي يحمله المستوطنون معهم. القسم الثاني يبدأ بالكولونيل شرمي وهو يبلغ الرائد ملينكي بضرورة فرض منع التجول، وقتل بعض المزارعين لإرهاب الجبهة الشرقية بأسرها، خوفاً من تفاقم أحداث قد تنجم عن ردود فعل عربية في الداخل، تجاه قيام القوات الاسرائيلية بغزو صحراء سيناء في مصر. والقسم الثاني، هذا، يعرض علينا المجزرة في شكل وثائقي للغاية، حقيقي، لا تتخلله من جانب المخرج أية مؤثرات درامية، أو اية محاولة لإحداث أي تأثير في عاطفة المتفرج. ولعل قيمة الفيلم كله تكمن هنا. فالبرود التام – بالمعنى الحرفي للكلمة – الذي تدور المجزرة ضمنه، يعكس رغبة حاسمة لدى المخرج، في عدم التدخل، وفي ترك الحدث نفسه يعبر عن نفسه. فالمسافة التي يفرضها المخرج، هنا، بين الحدث والمتفرجين عليه، تؤثر تأثيراً إيجابياً وحاسماً في درجة استيعاب المتفرج، عقلياً وليس عاطفياً، لحقيقة المجزرة. ومن هنا يستبدل برهان علوية، عنصر التشويق والتأزيم الدرامي، بعنصر التوعية الذي يقود الى التحريض. وهذا شيء نادر للغاية في السينما العربية، ان لم نؤكد انه غير موجود على الإطلاق. غير ان ظاهر الحياد، الذي يتخذه المخرج تجاه المجزرة سرعان ما يسقط سريعاً، عبر الاسلوب الذي يعرض «الأحكام الجزائية» على القتلة بواسطته، ثم يسقط مرة اخرى من خلال خاتمة الفيلم المشبعة بالتفاؤل، والتي تنتهي على أنغام وضعها وليد غلمية لقصيدة محمود درويش «مغنى الدم» التي كتبها الشاعر الفلسطيني عن هذا الموضوع بالذات. لقد أتى فيلم «كفرقاسم» يومها واحداً من الأفلام السينمائية العربية النادرة التي كانت تعرف تماماً ما الذي تريد أن تقوله وقالته. غير أن «كفرقاسم» يتميز بأنه لم يكتف بتناول موضوع سياسي، بل انه تناول موضوعه سياسياً، وعبّر عنه بأسلوب سياسي واضح فنقل العمل من مستوى الموقف الى مستوى التحريض... ما جعله، في شكل أو في آخر واحداً من أول الأفلام السياسية العربية، أي فيلماً يتناول التاريخ من زاوية وعيه وبالتالي وعي الحاضر. ومن هنا لم يكن غريباً ان ينال الجائزة الكبرى (التانيت) الذهبية في دورة ذلك العام لمهرجان قرطاج، واضعاً سينمائياً عربياً جديداً، على خريطة السينما العربية بل العالمية، فكانت انطلاقة للسينما اللبنانية لم يعرف تاريخها مثيلاً لها من قبل، وستليها انطلاقات أخرى تقول: ها هي سينما لبنانية، عن فلسطين تولد حقاً. فلماذا لا تكون ولادة جديدة للسينما اللبنانية نفسها؟ [email protected]