في خضمّ السجال الإسرائيلي العربي الذي تنامى عشية موعد اللقاء في أنابوليس، تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية نقاشا حادا في عدة جبهات أبرزها الجبهة القضائية. وهي تشهد منذ مجيء وزير القضاء الجديد قبل أشهر تفجرا لنقاش قديم بين المستوى السياسي وبين المستوى القضائي حول مكانة المحكمة العليا وصلاحيتها الممنوحة لها وفق القانون ووفق العُرف القضائي المعتمد التي تتسع لتشمل حقّ إلغاء قوانين يسنّها البرلمان أو أنظمة أو إجراءات إدارية صادرة عن دوائر الدولة إذا ما رأت فيها خرقا لقوانين أساس في الدولة العبرية ولها صفة دستورية. ففي حين تجذّرت في الحياة العامة الإسرائيلية عبر عقود أعراف تضع المحكمة العليا وقراراتها في موقع نقدي من السلطتين التشريعية والتنفيذية قادرة على فرض قيود وكوابح عليهما، تحاول أوساط الحكم من أحزاب اليمين والوسط أن تنتقص من مكانة المحكمة العليا ومن العُرف القضائي السائد في هذا الباب ومنح المشرّعين نواب الكنيست ممثلي الأحزاب المكانة الأعلى في التشريع وسن القوانين وتعديل التشريعات وفي بلورة النظام السياسي ورسم معالم الحياة العامة كمؤسسة أعلى من المحكمة. والفرضية هي أن المشرّعين هم المنتخَبون من الشعب وأن الشعب مصدر السيادة في النظام الديموقراطي وليس الجهاز القضائي. وكانت النقاشات سجالا أكاديميا يظهر في اللقاءات والمنابر الدراسية والبحثية إلى سنوات التسعينات حيث برز تيار سياسي قوي يدعو صراحة إلى كبح قوة المحكمة العليا والحدّ من فاعليتها وإلغاء مكانتها النقدية. وهو تيار يميني النزعة في الاقتصاد والسياسة يرى أن المحكمة العليا ترجّح ديموقراطية الدولة على يهوديتها خاصة في ما يتعلّق بتدخلاتها عبر قراراتها وتوصياتها في شؤون تخصّ ممارسات احتلالية أو حقوق الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل. المكانة التي اكتسبتها المحكمة العليا في إسرائيل نابعة بالأساس من شروط تاريخية في مركزها: أولا إن الدولة العبرية امتنعت حتى الآن عن وضع دستور لها، ما فتح الباب واسعا لتأويل القوانين والأنظمة. أو كما تقول أوساط قضائية: لقد امتنع السياسيون والمشرعون حتى الآن عن ملء الفراغ الدستوري أو عن اتخاذ قرارات حاسمة في قواعد اللعبة السياسية والحياة العامة والحريات وعلاقة الدين بالدولة، فلماذا ينزعجون من كون المحكمة العليا تحاول أن تُعطي للمواطنين أجوبة أو حلولا؟ ثانيا إن مكانة القاضي في الثقافة اليهودية هي مكانة خاصة انسحبت على القضاة والحكمة العليا التي اعتُبرت"درة تاج"الديموقراطية الإسرائيلية. ثالثا النخب الإسرائيلية، على تحولاتها، عوّلت كثيرا على المحكمة العليا في حفظ ماء وجه إسرائيل في الخارج بالإشارة إلى قراراتها التي تحمي الأقلية الفلسطينية أو تحفظ حقوق الأفراد أو تتدخل في سياسات الاحتلال مثلا، أخرت طرد المُبعدين إلى مرج الزهور وحتمت إجراء بحث في الموضوع قبل الطرد. رابعا إن طريقة اختيار القضاة في إسرائيل تتم وفق معايير مهنية بالأساس من خلال لجنة يحظى ممثلو الجهاز القضائي فيها في العادة بأغلبية. وهي حالة شكّل فيها القضاة مؤسسة فوق سياسية أو حزبية أو أشبه بحكم مهني موضوعي لا دوافع سياسية لديه ولا مآرب سوى إقامة العدل والبت في نزاعات تطرح أمامه. وقد استثمر قضاة كثيرون هذه الوضعية التاريخية وجعلوا من نظام القضاء الإسرائيلي المحسوب على ما يسمى في لغة المهنة"قانوناً عاماً"""Common law ليعزّزوا حضور"القضائي"في الحياة العامة. وهو نظام ينبني من تراكم قرارات المحاكم خصوصا في هيئاتها العليا التي تتحوّل إلى أعراف وقرارات تُعتمد كقوانين أو معايير قياس نظام القضاء البريطاني وذلك القائم في مستعمراتها من المذهب ذاته. بل يبدو أن النظام في إسرائيل استعار هذا النظام من الانتداب البريطاني على فلسطين. وقد عزّز هذا التوجّه رئيس المحكمة العليا السابق أهرون براك كان في السابق مستشارا للحكومة عرف بنقدية توجهاته الذي أسس لما يُعرف بنهج"الفاعلية القضائية"ومؤدّاه أن كل أمر قابل للتداول في المحكمة بما فيه شؤون الاحتلال، وأن الجهاز القضائي يملك الصلاحيات والأدوات للبت في كل نقاش أو خلاف. ويقضي أيضا بتوسيع دائرة مستحقي الالتماس حق المثول والتداول أمام المحكمة للمحكمة العليا في شؤون بينهم وبين دوائر الحكم. أما تشريع القانونين الأساسيين، حرية الإنسان وكرامته وحرية الاشتغال ومزاولة المهن في العام 1992، فقد شكّلا فرصة لإحداث ما اعتبر في الأوساط الإسرائيلية"الثورة الدستورية"بتأثير الأوساط الحقوقية والقضائية وفي رأسها القاضي براك المذكور. طيلة هذه السنوات بدت المحكمة العليا في إسرائيل نشطة في نقد المؤسسة الحاكمة وفي فرض قيود قانونية على إجراءاتها. فالمحكمة العليا مثلا، دافعت بمثابرة عن الحق في حرية التعبير أحد ركائز النظام الديمقراطي. ودافعت بالطريقة ذاتها في العقود الأخيرة عن الحق السياسي للفلسطينيين المواطنين في إسرائيل من خلال ضمان حقهم في الترشّح وطرح قوائم انتخابية لانتخابات الكنيست. وكلّما شطبت لجنة الانتخابات المركزية مؤلّفة من ممثلي أحزاب قائمة عربية كانت المحكمة العليا تلغي القرار وتثبّت القوائم والمرشحين فيها. وقد كان هذا الموضوع بالذات مثار خلاف وشد قوى بين المحكمة العليا والكنيست التي بادرت قوى فيها إلى إجراء سبعة تعديلات على قانون الانتخابات منذ أواسط الثمانينات، في محاولة للالتفاف على قرارات المحكمة العليا ومنع مرشحين وقوائم غير مرغوب بها وهي في العادة عربية من الوصول إلى البرلمان! بمعنى أن كل قرار صدر عن المحكمة العليا يُنصف الفلسطينيين في إسرائيل، ولو بشكل محدود أو معنوي فقط، أثار من جديد الدعوة إلى تقليص مكانة الجهاز القضائي والمحكمة العليا، ذراعه التنفيذية. والأمر ذاته حصل كلما تدخّلت المحكمة في سياسات الاحتلال وممارساته وفرضت قيدا أو منعا هنا وهناك علما أن المحكمة العليا لم تقم مثلا بمنع هدم أي بيت فلسطيني تقريبا طيلة سنوات الاحتلال. من هنا فإن أوساطا يمينية رأت في المحكمة العليا جسما نافذا ومؤثرا يعتمد توجهات"يسارية"أو مؤيّدة لحقوق العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، أو يقيّد"حرية"الاحتلال وحركة الاستيطان. وهو أمر اعتُبر تغليبا من المحكمة العليا لديموقراطية الدولة على يهوديتها. ومن هنا أتت أوساط يمينية بفكرة الحد من صلاحيات المحكمة وإطلاق يد المشرّعين في الكنيست تجاوزا لقراراتها ولأعراف بلورتها وأسست لها. وهو ما يطرحه اليوم وزير القضاء الجديد محسوب على المعارضين لمنهج الفاعلية القضائية ولصلاحية العليا في إلغاء قوانين أو أنظمة في إطار إصلاح للجهاز القضائي في مركزه إعادة الغلبة للبرلمان والمشرّعين والحدّ من قدرة المحكمة على التدخّل أو على شطب قوانين أو أنظمة. ويشار هنا إلى أن المحكمة العليا في إسرائيل لم تلغ حتى الآن سوى أربعة تعديلات قانونية ثانوية منذ سن قانون أساس حرية الإنسان وكرامته أو حرية الاشتغال. وإن كانت أصدرت عشرات القرارات التي تحدّ من"حرية"السلطة التنفيذية ودوائرها أو التي تمنع تطبيق إجراءات أو سياسات اعتبرتها المحكمة عنصرية أو مجحفة أو مميزة أو لا تتناسب مع حدث أو أمر. كما انه يدعو في برنامجه إلى تقليص حق الالتماس وعدد القضايا المطروحة للتداول أمام المحكمة العليا بدعوى أنها ترزح تحت عبء الالتماسات والقضايا، علما بأن الهدف هو نسف نهج"الفاعلية القضائية"و"كل قضية قابلة للتداول في المحكمة"الذي أرساه قضاة المحكمة العليا وأولهم القاضي براك. بقي أن نشير أن أوساط الحكم في إسرائيل التي تسير أكثر فأكثر في ركب المنهج الأميركي في كل شيء تأثّرت من النظام القضائي الدستوري هناك باتجاهين: الأول ضبط حركة الجهاز القضائي ووضعه قيد الدستور وحرفيته مع إبقاء السيادة والغلبة للسلطة التنفيذية لتحدد طابع الحياة والأنماط والأعراف. والثاني الشروع في وضع دستور للدولة أسوة بالولايات المتحدة يكون حاسما في رسم الحدود الواضحة ليس بين الدولة والمواطن فحسب، بل بين السلطات والمؤسسات، أيضا. ولا نستطيع القول أن المحكمة العليا في إسرائيل عصية على التأثّر من الموجة اليمينية أو الأميركية بدلالة أن توجهها في المسائل الاقتصادية حُكم كليا بما يُسمى"النهج الليبرتياني"أي المغالي في الليبرالية وفهم حرية الاشتغال على أنها حريّة المشغّلين من شركات وكبار منتجين وليس حرية المشتغلين، أو تأكيدها في قراراتها على حرية وحق الملكية ورفضها مفاهيم"العدل التقاسمي". ومن قراراتها الأخيرة بهذا الشأن رفضها التماسا حاول الملتمسون فيه إلزام الحكومة ضمان ما يُعتبر"مقومات العيش الكريم"عبر ضمان شبكة أمان اجتماعية بتقديمات وتحويلات للعاطلين عن العمل أو محدودي الدخل. ولوحظ أن الأدبيات القانونية في إسرائيل تشهد في السنوات الأخيرة موجة من نشر دراسات لأكاديميين أميركيين تنتقد القاضي براك ونهجه وتحذّر من حكم القضاة وإضعافهم لسيادة الدولة والنظام الديموقراطي الممثل بالبرلمان وأعضائه المنتخبين. ويشار هنا إلى معارضة هؤلاء الأكاديميين لما يسمونه القضاء المقارن أو الأدبيات القانونية المقارنة التي تستعين بها المحاكم الإسرائيلية أو الأميركية أحيانا في تثبيتها للحقوق والحريات ويعتبرونها مسا في السيادة الوطنية أو كرامة الدستور الوطني. وقد وجد هؤلاء لأنفسهم صدى في المحافل الإسرائيلية، أيضا. في واقع الحال، لا تشذّ المحكمة العليا عن الإجماع اليهودي في الدولة العبرية بل تُعتبر في التجربة اليومية مكرّسة لواقع الحال في كل المستويات وإن كانت تخطو عدة خطوات سبقا للمجتمع في بعض المسائل أهمها حقوق المرأة ومكانتها. لكنها تتعرّض لتحولات خاصة بالمجتمع الإسرائيلي وأخرى وافدة من سيرورة العولمة. فصحيح أن اليمين الإسرائيلي منزعج من قراراتها أو فاعليتها لأسباب تتعلّق بفهمه للدولة اليهودية وقيمها ومعاييرها، لكن من علماء الاجتماع الأوروبيين المهتمين بالعولمة أمثال زيغموند باومان وهبرماس وأوليخ بك ويوهان شتراسر مَن يشير إلى ضعف مؤسسات الدولة الديموقراطية القومية كجزء من ضغط القوى الكونية باتجاه تكريس الدولة القومية وديموقراطيتها لخدمة الكيانات الكبرى وحركة السوق العالمية. ونشير في هذا الإطار على حصول التفاف على الديموقراطية البرلمانية في كثير من الدول الغربية بدلالة أن صنع القرار لا ينحصر في البرلمانات أو الدوائر الحكومية بل نشأت إلى جانب مؤسسات الحكم مراكز أبحاث ودراسات واستشارة خذ أميركا مثلا تبلور سياسات وتضع خرائط طريق وتوجهات تعتمدها مؤسسات الحكم. وهذا ما حصل في إسرائيل، أيضا، حيث قامت مؤسسات بحثية ومؤتمرات دورية تؤثّر في وضع السياسات وصنع القرار. وعلى سبيل المثال، هناك مؤتمر قيسارية السنوي في إسرائيل الذي تخصص في وضع السياسات الاجتماعية الاقتصادية، وهناك مؤتمر هرتسليا الذي تخصص في إنتاج برامج وتوجهات أمنية استراتيجية. ويلاحظ أن هذه المؤتمرات سحبت الأضواء من المشرعين وصارت تنافسهم في إنتاج المعايير والتوجهات وتشاركهم صنع القرار والتشريع ورسم السياسات وبلورة الرأي العام. بل لوحظ أثر هذه المؤتمرات في قرارات وتوجّهات دوائر الحكم. وهنا يتساءل المدافعون عن الجهاز القضائي عن سهولة تنازل المشرّعين عن قوتهم وصلاحياتهم لأجسام من القطاع الخاص/السوق بينما هم يستكثرون على الجهاز القضائي مكانته ويتهمونه بإضعاف البرلمان! ويبدو من السجال الدائر في إسرائيل أنه لن يكون من السهل تمرير خطة وزير القضاء الجديد والانتقاص من دور المحكمة العليا في الحياة العامة الإسرائيلية خاصة أن شركاء في الحكومة مثل حزب"العمل"تجنّد بقياداته ورموزه في صدّ الحملة على المحكمة العليا، وأن قضاة سابقين مرموقين انتصروا لمحكمة والجهاز القضائي. لكننا لن نستبعد أن تتأثّر المحكمة من الحملة ضدها وأن تتضعضع الثقة بين الجهاز القضائي وبين قطاعات من المجتمع اليهودي غير معنية بالديموقراطية بقدر ما هي معنية بيهودية الدولة العبرية. نقول هذا مشيرين إلى تاريخ من السجال بين الجهاز القضائي وبين المؤسسة الدينية على مذاهبها وأحزابها في إسرائيل على خلفية قرارات المحكمة العليا في مجال العلاقة بين الدين والدولة أو بين علمانيين ومتدينين. وهو سجال يجسّد في قواه وتوجهات أطرافه تحولات في الدولة العبرية والمجتمع اليهودي فيها الذي يحاول منذ الانتفاضة الثانية أن يُنتج ذاته من جديد وليس في مستوى هويته وبناء صورة الجماعة اليهودية بل في مستوى دولته ومؤسساتها. * كاتب فلسطيني.