تواصل الأحزاب الحاكمة في إسرائيل التنافس في ما بينها حول من يقدم «التعديل الأكثر تطرفاً لقانون «القومية»، أي للتعريف الحالي لإسرائيل على أنها «دولة يهودية وديموقراطية»، لجهة إنهاء «التوازن» (غير الموجود على أرض الواقع) بين «اليهودية» و «الديموقراطية» وتفضيل صبغة «اليهودية» على الديموقراطية مع ما يحمل ذلك من انعكاسات كبيرة على الفلسطينيين على جانبي «الخط الأخضر». ويعتبر الاقتراح الجديد لتعديل «قانون القومية» الذي يتوقع أن يطرحه هذا الأسبوع على الكنيست للتصويت رئيس الائتلاف الحكومي النائب من «ليكود بيتنا» يريف ليفين أكثر تشدداً من الاقتراحات السابقة، إذ لا يكتفي بتفضيل «اليهودية» على «الديموقراطية» إنما ينذر، في حال التصديق عليه، بأن يتيح للحكومة الإسرائيلية اتخاذ قرارات مثل ضم الضفة الغربية إلى سيادتها، أو مواصلة بناء الجدار الفاصل بين إسرائيل والضفة. أما على الصعيد الداخلي فإنه سيسدل الستار على مطالب المواطنين العرب بمساواة كاملة في الحقوق ويصعّد التمييز ويكرس السياسة العنصرية ضدهم، في مقدمها تهويد «الجليل والمثلث والنقب» (حيث يعيش نحو مليون فلسطيني). كل ذلك من دون أن يكون للمحكمة العليا، التي يرى فيها اليمين عدوه الرئيس، حق في التدخل بداعي أنه «قانون أساس»، لا قانوناً عادياً، أي أن له مكانة دستورية. ولتحقيق هذه المخططات فإن اقتراح ليفين، وخلافاً للاقتراحات السابقة التي تحدثت عن «إسرائيل دولة يهودية»، يتحدث في أحد بنوده الجديدة عن «أرض إسرائيل»، أي «فلسطين التاريخية» (من البحر المتوسط إلى نهر الأردن) على أنها «الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ومكان تأسيس دولة إسرائيل». ويقرّ ليفين بأن استبدال «إسرائيل» ب «أرض إسرائيل» جاء ليضمن عدم تدخل المحكمة العليا «مثلاً، عندما تتم إقامة بلدة يهودية في أي بقعة من أرض إسرائيل (المقصود أساساً إقامة مستوطنات في أراضي عام 1967)، لأن لكل يهودي الحق التاريخي على هذه الأرض». ويبرر ليفين اقتراحه بعدم احترام المحكمة العليا «التوازن بين يهودية الدولة وديموقراطيتها» بل بالدوْس عليه من خلال منحها الأفضلية لمركّب الديموقراطية على حساب يهودية إسرائيل وطابعها الصهيوني»، ما يستوجب برأيه «تصحيح هذا الوضع» من خلال إخضاع الهوية الديموقراطية للدولة لقوميتها اليهودية، أي اعتبار «أرض إسرائيل» دولة «يهودية ذات نظام ديموقراطي»، أي أن يتم التمحور، لدى قيام المحكمة بتفسير القوانين المختلفة، في يهوديتها قبل كل شيء. ويضيف أن المحكمة العليا «تمادت» في تفسيرها القوانين المختلفة عندما رأت مثلاً أن تهويد الجليل والنقب هو تمييز مرفوض ضد (المواطنين) العرب فأتاحت لمواطن عربي أن يبني له بيتاً في بلدة يهودية، أو عندما وضعت «مبدأ المساواة» في الحقوق (للعرب) قبل «يهودية الدولة»، مشدداً على أن التعديل يأتي لوضع حد لتدخلات المحكمة العليا «التي وضعت لنفسها دستوراً خاصاً بها من دون أن تكون لها صلاحية بذلك». وزاد: «يجب أن نكون واضحين: هذه دولة يهودية، ويحظر أن نسمح بطمس المبادئ الأساسية للصهيونية، التي تسبق المبادئ التي تأتي المحكمة العليا بها. وأضاف أن الاقتراح يبغي إرغام المحكمة على أن يكون مبدأ «الدولة اليهودية ذات النظام الديموقراطي» النبراس الذي يهتدي به قضاتها في قراراتهم» أي التأكيد على مركزية تعريف إسرائيل كدولة يهودية أولاً، ثم الإشارة إلى أنها ذات نظام ديموقراطي». كما ينص الاقتراح الجديد على اعتبار اللغة العبرية وحدها اللغة الرسمية في إسرائيل، ما يعني إلغاء القانون القاضي باعتبار اللغة العربية أيضاً رسميةً، علماً بأن الاقتراحات السابقة أيضاً تضمنت بنداً حول شطب مكانة اللغة العربية كلغة رسمية لكنها اقترحت اعتبارها «ذات مكانة خاصة»، وفي الحالتين لم يأبه المقترحون بحقيقة أن اللغة العربية هي جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والقومية للأقلية العربية كأقلية قومية. من جانبه يحذر النائب من حزب «العمل» المعارض أفيشاي برافرمان من إقرار مشروع ليفين، معتبراً ذلك «كارثة»، مضيفاً أن الغرض الرئيسي منه هو ضم الضفة الغربية و «القضم» من الدولة الديموقراطية. اهتم واضعو «وثيقة الاستقلال» (مع إقامة إسرائيل عام 1948) بتأكيد طابع الدولة اليهودي إذ تم تعريفها «دولة يهودية في أرض إسرائيل»، من دون أن تضاف لها صفة الديموقراطية، وإن حاولت تأمينها من خلال الحديث في بنود أخرى عن مساواة تامة في الحقوق بين جميع المواطنين ومنح المواطنين غير اليهود تمثيلاً مناسباً في مؤسسات الدولة المختلفة. لكن مع ذلك لم يتم تعريف الدولة داخل النصوص القانونية، علماً بأن وثيقة الاستقلال لا تحظى بمكانة قانونية ملزمة. ولم يرَ أقطاب الدولة العبرية الذين فرضوا الحكم العسكري على عرب الداخل لعقدين من الزمن أن ثمة حاجة ملحة لتعريف الدولة في نص قانوني. وعلى مدار عقود تم تشريع قوانين كثيرة ذات «سمات يهودية» مثل «قانون العودة» و «قانون المواطنة» وقانون «الوكالة اليهودية» و «قانون ساعات العمل والعطل» وقانون «المحاكم الدينية اليهودية» وغيرها. لكن الأوضاع تبدلت مطلع ثمانينات القرن الماضي عندما تأسست «الحركة التقدمية» بزعامة النائب السابق محمد ميعاري لتطرح تحدياً وبديلاً لفكرة الدولة اليهودية، فنادت بتعريف إسرائيل «دولة المواطنين» ليُتهم أقطابها بأنهم ينفون وجود إسرائيل كدولة يهودية. وفي عام 1985 سارعت الكنيست إلى تعديل «قانون أساسي: الكنيست» بإضافة بند يقول إنه يحظر على قائمة تنفي وجود إسرائيل ك «دولة للشعب اليهودي»، (في إشارة إلى الحركة التقدمية)، أو أية قائمة تنفي الصبغة الديموقراطية للدولة (في إشارة إلى حركة كهانا الدينية العنصرية) خوض الانتخابات للكنيست. عام 1992 تم التطرق لأول مرة في نص قانوني إلى «دولة يهودية ديموقراطية» في قانون أساس: «كرامة الفرد وحريته»، وقانون أساس: «حرية التشغيل»، اللذين أوضحا أن الغرض من تشريعهما هو تأكيد قيَم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية. وبعد عشر سنوات تم تأكيد هذا التعريف في «قانون أساس: الكنيست». لكن تفسير هذا التعريف بقي موضع مقاربات متباينة بين مختلف الأوساط السياسية والعلمانية والدينية اليهودية (من دولة توراتية» أو «دينية قومية» أو «دولة قومية ثقافية» أو «دولة الشعب اليهودي» و «دولة قومية يهودية» و «دولة جميع مواطنيها» والأخيرة طرحها من جديد وبقوة أكبر حزب «التجمع الوطني الديموقراطي» مع تأسيسه منتصف التسعينات إذ نادى بأن تكون إسرائيل دولة جميع مواطنيها وأن يُمنح الفلسطينيون في الداخل حكماً ذاتياً ثقافياً). كل ذلك إلى أن طولبت المحكمة العليا بتفسيره في القضية المعروفة ب «قضية قعدان» وتتعلق بمواطن عربي طلب بناء بيت في مستوطنة يهودية مقامة على «أراضي دولة» في منطقة المثلث، فرُفض طلبه بداعي أن الأرض مخصصة لليهود، ليلتمس إلى المحكمة العليا التي أصدرت قراراً مبدئياً بضرورة عدم التمييز بين المواطنين في إسرائيل في توزيع «أراضي دولة». وعام 2003 عرّف رئيس المحكمة العليا في حينه أهارون باراك النص القانوني آنف الذكر فكتب: «حقُ كل يهودي في الهجرة إلى إسرائيل حيث يشكل اليهود الغالبية هو في مركز تعريف «يهودية الدولة. وتكون العبرية اللغة الرسمية المركزية للدولة، فيما أهم أعيادها ورموزها تجسد النهضة القومية للشعب اليهودي». مضيفاً أن مركّب الديموقراطية يعني «الاعتراف بسيادة الشعب التي تنعكس في انتخابات حرة ومتساوية، والاعتراف بنواة حقوق الإنسان بينها الكرامة والمساواة. ويجب تفسير التعريف على نحو لا يمس بحرية أساسية مثل حرية الترشح والانتخاب، مع تأمين مبادئ فصل السلطات وسلطة القانون واستقلالية السلطة القضائية». ورأى اليمين في هذا الكلام تدخلاً من المحكمة وتهديداً للمتعارف عليه بشأن «يهودية الدولة»، لتغدو هذه المسألة، خصوصاً بعد انتفاضة عام 2000 وانزياح الشارع الإسرائيلي إلى اليمين المتطرف، أكثر إلحاحاً بالنسبة لسدنة الدولة العبرية الذين رأوا وجوب تأكيد خطاب الدولة اليهودية بمعناها القومي. ولم يعد هذا الطرح مقصوراً على النقاش بين اليهود والعرب داخل حدود إسرائيل بل بادر رئيس الحكومة السابق ايهود اولمرت إلى تسويقه للعالم في مؤتمر أنابوليس أواخر عام 2007، ليتبناه لاحقاً نتانياهو ويضعه شرطاً لأي اتفاق، معتقداً أنه يحل بذلك مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عامي 1948 و1967، فيما ترك لنواب حزبه ومعسكر اليمين تغيير التعريف القانوني ل «يهودية الدولة» ليضع حداً لطموحات الفلسطينيين في الداخل لهوية قومية أو دولة جميع المواطنين.