خلال الربع الأول من سبعينات القرن العشرين، حين كان العمل الفدائي الفلسطيني يعيش ذروة تألقه ويطرح أسئلة كثيرة على كبار المثقفين في العالم، توجه المخرج الفرنسي جان - لوك غودار الى الأردن وهمّه تحقيق فيلم لم يعترف في ذلك الحين انه تلفزيوني عن النضال الفلسطيني بعنوان"ثورة حتى النصر". لكن غودار بعد أسابيع من التصوير ولأسباب لا مجال للخوض فيها هنا، بارح الأردن وتخلى عن الفيلم، ليعود اليه لاحقاً محولاً اياه الى فيلم عن"الميديا"وعن تأثير التلفزيون بخاصة، على حياة الناس العاديين: صار الفيلم نوعاً من الحوار بين"العمل الفدائي"المصور، وعائلة تسهر في بيتها تشاهد ذلك العمل على شاشة التلفزيون. كان غودار يريد من ذلك الفيلم الجديد، أن يفضح ليس اكاذيب الميديا، بل قصورها واعطاءها نصف الحقائق. ومن الواضح ان صاحب"بيار والمجنون"وپ"على آخر رمق"والذي يعتبر، عن خطأ أو عن صواب، واحداً من كبار مبدعي السينما الأحياء وآخر الكبار الباقين من تيار الموجة الجديدة الفرنسية، كان يواصل بهذا خوض معركته المدافعة عن فن السينما ضد حرفية التلفزيون. في منطقه الخاص وبالتضافر مع تاريخه، كان غودار منسجماً مع نفسه ولكن نظرياً فقط. وذلك لأن الحقيقة تقول لنا إن العدد الأكبر من الأعمال التي حققها، منذ أنجز الفيلم الذي نتحدث عنه وعنوانه"هنا وهناك"بديل"ثورة حتى النصر"ومنذ عرض هذا الفيلم على شاشة التلفزة، لم يحقق غودار للشاشة الكبيرة، من بين الأفلام الكثيرة التي حققها خلال ثلث القرن الأخير، سوى ثلاثة أو أربعة أفلام... أما الباقي وعدده يتجاوز العشرين، فإنما كان أفلاماً تلفزيونية، من انتاج تلفزيوني، في لغة مبتكرة تجمع بين عبقرية غودار السينمائية ومتطلبات اللغة التلفزيونية. وانطلاقاً من مواضيع وثائقية أو تخييلية من الواضح دائماً أن عالمها تلفزيوني وهدفها مشاهدو التلفزيون. غودار لم يوافق على هذا صراحة على الإطلاق. بل هو يخلد الى الصمت حين يقال له ان حتى الأفلام"الروائية"القليلة التي حققها، للسينما منذ ذلك الحين، مثل"انقذ ما يمكن الحياة"وپ"تحري"وپ"موجة جديدة"وصولاً الى"مديح الحب"وپ"موسيقانا"، كانت أفلاماً من انتاج التلفزيون وحققت عروض بعضها التلفزيونية اضعاف اضعاف النجاح الذي حققته العروض السينمائية. غودار المكابر دائماً، كابر هذه المرة أيضاً. ولكنه اذ خلط الأمور ببعضها كيلا يتحدث صراحة عن تلفزيونية هذه الأفلام، ما كان يمكنه فعل الشيء نفسه بالنسبة الى أفلام أخرى له، تلفزيونية خالصة هذه المرة، مثل"موزار الى الأبد"وپ"المانيا العام 90"وپ"ج.كا.غ - ج. ل. غ"الذي هو عبارة عن سيرة ذاتية له، فيما كان سابقه"المانيا العام 90"أشبه بصورة لواقع المانيا مصورة عبر نوع من البورتريه للممثل الفرنسي الألماني الأصل ايدي كونستانتين الذي كان غودار قدمه في واحد من أفلامه السينمائية الأولة"الفافيل" و"جولة ودورة في فرنسا"... ان مشاهدة هذه الأفلام، بين أعمال عدة أخرى مشابهة ستضعنا بالتأكيد أمام صورة العبقري الذي يقبل التحدي، لكنه لا يعترف به. صورة بيتهوفن مثلاً، وهو لحن الجريدة الرسمية الهولندية، لمجرد أن يثبت انه قادر على ذلك. بل ان ثمة، هنا ما هو أكثر من هذا: في هذه الأفلام وفي دزينة غيرها حققت للتلفزة ومعظمها لم يعرض إلا على الشاشة الصغيرة، أو في صالات متخصصة ومهرجانات، زواج غودار بين لغته السينمائية المعهودة، وهي اللغة التي تحولت مع الوقت لتصبح أشبه بكولاج حقيقي، وبين كلاسيكية حداثية صارمة. ومن هنا لم تعد لغته لغة سينمائية خالصة، ولم تعد في المقابل لغة تلفزيونية خالصة. بيد ان هذا لم يجعل منها لغة هجينة. بل لغة ثالثة جامعة، تنتمي عملياً الى ما كان من شأن الفيلسوف جيل دولوز، الذي كان اهتمامه بالسينما وبفن غودار على وجه الخصوص سمة أساسية من سمات عمله الفلسفي، كان من شأنه أن يعتبره أسلوب ما بعد الحداثة، حيث يزول كل تصنيف وتحل اللغة الجامعة وموج المواضيع محل صرامة أرسطية لم يعد لها من مكان. كل هذا واضح وصريح، ومشروع بالنسبة الى فنان بدا ويبدو دائماً قادراً على التقاط روح العصر وجوهر الحدث واعتبر ويعتبر دائماً انه كفنان مسؤول عن كل تجديد يجب أن يطرأ على الفنون وعلى العلاقة بين الفنون. غير ان المشكلة تبدأ مع غودار، حين يرفض الاعتراف بذلك، مجازفاً بأن يبدو صاحب ازدواجية غير واعية. وهي صورة مخطئة بالتأكيد... لا تنطبق على غودار ولا على زميله الألماني الراحل راينر ورنر فاسبندر، الذي بعدما قدم عشرات الأفلام للسينما في فترة قياسية، ختم حياته بعمل تلفزيوني قد يصح أن يوصف، اليوم، بأنه أروع ما قدمه مخرج أوروبي للشاشة الصغيرة. * الحلقة المقبلة: 15 ساعة مدهشة من فاسبندر