عبرنا الكرّادة متّجهين إلى منطقة الباب الشرقي، وبالطبع لا بد من المرور ب "ساحة القهرمانة" النصب الذي أنجزه الفنان العراقي محمد غني حكمت الذي يصور حكاية من"ألف ليلة وليلة"عندما صبّت القهرمانة الزيت على"البساتيج"كما تسمى بالعراقي وهي الزيرات جمع زير التي اختبأ فيها"الأربعون حرامي"لتخرجهم منها كالنحل من خلايا الشمع وأنا أقول في نفسي كم طنّاً من الزيت المحترق وكم قهرمانة نحتاج اليوم لنخرج كلّ"حرامية"بغداد من ثغورهم وپ"بساتيجهم"التي يختبئون فيها؟! على أي حال النصبُ في غاية الجمال والهارمونيا بين جسد القهرمانة والزيرات والحكاية وپ"ألف ليلة وليلة"... وألف مفخخة ومفخخة.. وكل شيء ما زال يجري، الدم والتاريخ والزيت والحراميّة، الغائبة الوحيدة هي القهرمانة التي أعاد محمد غني حكمت شبحها إلى شوارع بغداد لتبقى من بين كل الأشباح الراحلة وحدها تَتَمثلُ في جسدٍ رخامي وفي حديث منذ أكثر من ألف عام لم يصمت بعد ولم تتوقف شهرازدُهُ عن الكلام المباح. أُبيحَ الكلام اليوم في بغداد ومعه أُبيح الموتُ والظلامُ والدمُ والنهبُ والغياب والتشردُ والنعيُ. أُبيحَ الكلامُ في بغداد ولَن تسكت بغداد عن كلامها المباحِ المستباح من بعد. يا لها من مفارقة، في حكاية"ألف ليلة وليلة"كانت شهرزاد تُدافع عن حياتها وتدفع ساعة موتها بالكلام المباح، كان الكلام هو هواؤها الذي تتنفسه وجسدُها الذي يلوذ ويحتمي بنفسه من سيف شهريار وبغداد اليوم تموت ألف مرّة كل يوم من أجل أن تدافع عن كلامها عن صوتها وحريّتها. إنها تموت ليبقى صوتُها، تقدم آلاف القرابين لتكسر أسوار الصمت التي كبّلتها عقوداً طويلة دامية. بغداد تموت كل لحظة لتقول كل لحظة أنا أحيا... لقد قَلَبَتْ معادلة شهرزاد التي كانت لا تكف عن القول والكلام كل لحظة لتبقى ولتدفع الموت عنها. تُرى أي معادلة هذه بين الكلمة والموت، بين الجسد والماوراء بين الدم والكلمات؟ إذا كانت"ألف ليلة وليلة"قبل ألف عام وعام رمزاً لانتصار الكلمة فإن بغداد اليوم بألف قتيل وقتيل تعيد صوغ مفردات هذا الرمز تُعيدُ تأسيس كيانها بين الموت والكلام بين الصوت والجسد تلك هي خارطتُها الأعمق وتلك هي مسيرتُها غايتها. ولهذا يمكننا القول إن العلاقةَ بين الكلام والحياة كمعادلة وجودٍ وموتٍ، موتٍ ووجود، ابتكارٌ بغداديٌّ بمعنىً ما. هي براءة اختراعها حَمَلها نصٌّ عجيبٌ ساحر إلى العالم"ألف ليلة وليلة". ماتت هي مرّات عدّة، ماتت بغداد العبّاسية بكل شيء فيها وبقي النص. مات شهريار والامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وظلّت شهرزاد وظلّت الكلمة الحكاية. مات سيفٌ وجاءت سيوفٌ وسالت دماءٌ ولم تزل شهرزاد... لم تزل الحكاية التي خرجنا من رحمها لا تَرثُ إلاّ أصقاعَ الحلم والرؤى. وعلى أي حال لم ترث بغداد من بغداد المنصور إلاّ الكلام، أقصد، بكل بساطة، الحياة بمعنى ألف ليلة وليلة... لم ترث بغداد قصوراً وأعمدة من الرخام ولا نصباً أو تماثيل بل ورثت شهرزاد والمتنبئ وأبا نؤاس والجاحظ وأبا حيان، هؤلاء هم أعمدةُ معابدها وجُدرانُ مساجدها وأسوارها. لقد عبرت القرون على صفحات كتبهم وفي حناجر قصائدهم. أُحرقتْ مراراً وأُغرقتْ أخرى ودُمّرتْ وابتُليتْ بالطاعون والكوارث وظلّت تحمل سرَّها"اللوغوس"الخالق والحامي لكيانها، وهو الكلام منثوراً وقصيداً. أيّة علاقة بين الجسد ? الكينونة - الخلود من ناحية وبين الصوت ? الزمن - الميتافيزيقيا من ناحية أخرى؟ وهل هي أَنسغٌ متعاقبةٌ تتوالى في صعود وهبوط بين الانسان والهيولى، بين الماضي والحاضر، بين السماء والأرض في غابة معمّرة اسمها بغداد؟ من كتاب"يوم في بغداد"الذي يصدر خلال أيام عن المؤسسة العربية