تكاد لا تخلو ساحة أو منطقة مهمة في بغداد من نصب شاهد على واقعة أو حدث من تاريخ العراق، او يمثل شخصية تاريخية اخذت مكاناً من ذاكرة الامكنة والناس. لكن السنوات الثلاث الاخيرة شهدت بداية انحسار هذا"المشهد"بعدما سرق منها الكثير، وخُرب بعضها، واقتلعت نصب من قواعدها بدعوى انها تعود إلى العهد السابق - وليس إلى تاريخ الفن العراقي... العريق بتقاليده الفنية وبأسماء فنانيه الكبار، ما ترك أثراً جارحاً في نفوس الكثيرين الذين بات يحزنهم وهم يمرون من بعض الأمكنة... من عاصمتهم الا يجدوا شيئاً مما ألفوا رؤيته في حياتهم اليومية. فبعدما اقتلعت تماثيل ونصب من أماكنها، وبعدما تدحرج رأس ابي جعفر المنصور- مؤسس بغداد عاصمة الخلافة العربية - فوجئ البغداديون بنصب شهرزاد وشهريار جالس امامها"مقطوع الكف"... فلم يعد هناك من يطلب إليها ان تزيد وتواصل الكلام بعد الذي حصل... فكأن الحديث اخرس والكلمات مجهضة! و"شهرزاد وشهريار"نصب اختار له صانعه الفنان محمد غني حكمت و"أمانة بغداد"ان يكون في اهم مناطق بغداد بالنسبة الى البغداديين شارع ابي نواس... ووجد الناس طريقهم إليه بسهولة ليعقدوا صلاتهم معه حتى اصبح ميزة للشارع وأعاد للحكايات عهداً جديداً. سما رافع 30 سنة قالت ل"الحياة": اعتدت منذ ثلاث سنوات، وبالتحديد بعد احتلال بغداد عام 2003، الذهاب إلى مقر عملي مارة عبر شارع ابي نواس لألقي التحية كل صباح على"شهريار وشهرزاد".. وأسألها:"هل من حكايات جديدة ؟"وتتكلم بجذل طفولي وتقول:"يعيدني المنظر إلى الطفولة، اذ اعتاد والدي ان يصطحبني مع العائلة مساء الخميس من كل اسبوع للتنزه والجلوس عند النصب، لطالما وجدت فيه لغزاً خصوصاً ان والدتي غالباً ما كانت، وانا بعد طفلة، تقرأ عليّ بعض حكايات الف ليلة وليلة التي اذكر منها: السندباد البحري.. علي بابا والاربعين حرامي، وغيرها الكثير التي حرصت عند الكبر ان اقرأها كاملة". وتضيف سما بحسرة:"فاتني ان اقرأ الجزء المفقود منها.. ولم يتسن لي ان أهيئ نفسي له.. وكأني احلم بان الف ليلة وليلة مرت حتى اليوم على بغداد وهي محتلة!". وقال أحمد عدنان طالب جامعي:"لا اعلم ما الذي دعاني الى ايقاف سيارتي خلال مروري ذلك اليوم في شارع ابي نواس لاجد الاهمال يعلو النصب المشهور الذي منح الشارع ميزة خاصة"، ويضيف معبراً عن دهشة واستغراب:"واذا بي اجده مقطوع الكف فذهلت". ويعلق أحمد بسخرية:"اعتقد بأن الخوف منه جعلهم يقطعون كفه لانهم يعلمون أنه الوحيد القادر ان يستل سيفه، هذه المرة، في وجه احتلالهم أرضاً غابت عنها العناية والامل منذ سنوات". إلاّ ان السؤال الذي يثيره اكثر من مواطن وقف مجروح النفس امام المشهد هو:"متى يتوقف هذا العبث المقصود"ببغدادنا الجميلة، ورموزها"؟