تروي فاطمة المرنيسي في كتاب حديث لها "شهرزاد ترحل إلى الغرب" حكاية شهرزاد وشهريار، بطلي ألف ليلة وليلة رواية حديثة، فتحلل وتستنتج وتأتي بالملاحظات الطريفة. شهرزاد في روايتها، وكما تتصورها، بالغة النحافة بل شديدة النحول. لقد تعيّن عليها أن تواجه زوجاً عنيفاً. كيف يمكن للمرأة أن تحقق امتلاء الجسم الذي يوازي الاطمئنان إذا كانت تخاف على حياتها ليلاً نهاراً؟ شهرزاد إذن عصبية وقريبة من الانهيار! ولكن شهرزاد لم تكن الزوجة الأولى في سيرة شهريار، بل كانت الأخيرة. الزوجة الأولى خانت شهريار مع خادمها مسعود. يقتل شهريار زوجته وعبده، ولكن رغبته في القتل لا تقف عند هذا الحد، بل إنها ستقض مضجعه كل ليلة. ولذلك يطلب من وزيره أن يأتيه كل صباح بعذراء يتزوجها ليلة واحدة ويدفع بها في الفجر إلى المقصلة ليقتلها: "ولم يزل الملك شهريار يأخذ كل ليلة بنتاً من أولاد التجار وبنات العامة ويبات معهم ويصبح بقتلهم، حتى فنيت البنات وتباكت الأمهات وضجت النسوة والآباء والوالدات، وصاروا يدعون على الملك بالآفات ويشكونه إلى خالق السماوات، ويستغيثون سامع الأصوات ومجيب الدعوات". هكذا نشاهد منذ البداية الارتباط الوثيق بين العنف الجنسي والعنف السياسي. الحرب التي كانت في البداية بين الجنسين، أصبحت تنحو نحو التمرد السياسي من طرف الآباء المنكوبين ضد ملكهم. لم تبقَ هناك إلا أسرة واحدة تملك بنات عذراوات في مملكة شهريار، هي أسرة الوزير الذي أشرف على قتل الفتيات وكانت له بنتان هما شهرزاد ودنيازاد. لم يشأ والد شهرزاد التضحية بها، ولكنها أصرّت على مواجهة الملك.. ولكن شهرزاد لا تذهب إلى الموت بسذاجة، فقد كان لها استراتيجيتها ولها خطتها المضبوطة: أن تتحدث إلى الملك، وتشدّ أنفاسه إليها إلى حد يجعله غير قادر على التخلي عنها وعن موتها. "قال الملك في نفسه والله لا أقتلها حتى أسمع بقية الحديث وأقتلها ليلة الغد". إن تحويل غرائز مجرم يستعد لقتلك عن طريق الحكاية انتصار رائع. ولكي تنجح في ذلك، كان على شهرزاد أن تتحلى بثلاث مزايا استراتيجية: أولها تتمثل في معرفتها الواسعة، وثانيتهما تتجسد في قدرتها على خلق التشويق بقصد شد انتباه المجرم. أما الثالثة فهي هدوؤها، أي قدرتها على التحكم في الموقف رغم الخوف. ثلاث خصال منها برودة الدم. لقد تحكمت في خوفها إلى الحد الذي تحتفظ معه بوضوح أفكارها، وتتسلم زمام اللعبة عوض الانقياد للخصم. لقد نجحت شهرزاد إذن بفضل ذكائها وخصالها الفكرية كمخططة ممتازة. تُرى هل ستستعمل نفس الأسلحة التي تستعملها مصاصات الدماء الهوليوديات أو وصيفات الرسام ماتيس؟ هل سترمي بجسدها العاري في خمول على فراش الملك؟ لو فعلت ذلك لودّعت الحياة. ذلك أن هذا الرجل لم يكن يعاني من الحرمان الجنسي، بل من إحساس حاد بالنقص مرتبط بالشعور الذي ولدته لديه خيانة زوجته له. إن ما يحتاجه هو طبيب نفسي يساعده على أن يعيش المأساة التي تنخره حتى يتحرر منها. وذلك ما شرعت شهرزاد في القيام به متسلحة بجرأة خارقة. حكت له مئات الحكايات التي تكرر نفس الحبكة إلى ما لا نهاية، كما لو أن الأمر يتعلق بهذيان: انها حبكة الرجال الأقوياء الذين خانتهم زوجاتهم. ولكي تشجع شهريار على ألا يضخّم مأساته، تضرب المثل بحالات الجن، أي تلك الكائنات الخارقة التي لا تقهر، والتي تتعرض هي الأخرى لخيانة الزوجات عندما تجازف بالإقفال عليهن. من المؤكد أن التجاسر على التحدث إلى رجل عنيف عن الجرح الذي ينخر أعماقه لعلاجه منه، يشكل مجازفة تعكس قدرة استراتيجية كبيرة، ويجعل العديد من المثقفين الشرقيين، وعلى رأسهم العرب، يعترفون بأن شهرزاد رائدة ثورة تحفز الضعفاء على التمرد. يلاحظ جمال الدين بن الشيخ، وهو من أبرز المختصين في دراسة الحكايات، بأن شهرزاد لم تنكر لحظة وجود الكيد، أي إرادة النساء في عرقلة سلطة الرجال. وذلك يفسّر في رأيه الرفض الذي أبدته النخبة العربية تجاه حكايات ألف ليلة وليلة: "لكي تحصل الراوية على عفو الملك الذي خانته زوجته، وظفت كل خيالها المبدع لصنع حكايات تبرر توجسه تجاه النساء". والواقع أن الحكايات تصور الجانب المتمرد لدى نساء الحريم، بحيث أنها تبرز الواحدة تلو الأخرى بأن من العبث البالغ التعويل على طاعتهن لقواعد غير عادلة مفروضة كقانون! بإمكان الرجل أن يقرأ مصيره المأساوي في كل منها حسب ابن الشيخ: "إننا نعرف بأن هذا الرعب من الخيانة يحفر بجذوره في ثقافات أقدم من ثقافتنا، بحيث أنها جميعاً تعبّر عنه بنفس الطريقة تقريباً. ولكننا في هذه الحالة نشتغل على نص مكتوب بالعربية" إن اللغة العربية لغة شريفة، وبالتالي فإن كتابة الحكايات العربية في رأي ابن الشيخ سيضفي عليها مصداقية خطيرة، وذلك هو السبب الذي جعل النخب الذكورية العربية تحكم بعدم كتابة الحكايات والاكتفاء بنقلها شفوياً. على العكس من ذلك، أدى هذا الرفض إلى وضع المثقفين العرب في موقف متخلف عن الأوروبيين الذين نالوا السبق بترجمتهم للحكايات منذ سنة 1704 (الترجمة الفرنسية لكالان)، في حين أن الطبقة العربية الأولى لم تظهر إلا سنة 1814، أي بعد قرن من ذلك. يجب أن نعرف إضافة إلى ذلك بأن لا أحد من الناشر في الأوائل للحكايات بالعربية كان عربياً! يلاحظ ابن الشيخ أيضاً أن شهرزاد لا تحاكم الملك وحسب. إنها تصدر حكمها عليه بأن يغيّر طريقته في الحياة حسب رغباتها. إنه العالم بالمقلوب، عالم حيث القاضي لا يفلت من حكم ضحيته. إنه أيضاً عالم يخضع لقوانين الليل. فشهرزاد تلزم الصمت طيلة النهار، ولا يُسمح لها بالكلام إلا بعد غروب الشمس، حيث يلحق بها الملك إلى الفراش ليستمع إليها. لنتذكر العبارة التي تنتهي بها كل حكاية: "وادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح". إلا أن تأثير الحكايات المهموسة في الظلام، يزعزع قوانين محكمة الملك التي تبدو مجرد سراب يماثل في هشاشته ضوء النهار. لقد تخلى الملك بالفعل عن مشروعه المرعب، وخضع لتأثير شهرزاد البارع، واعترف بخطأه عندما وجّه غضبه ضد النساء. "قال الملك: لقد زهّدتني يا شهرزاد في ملكي وندّمتني على ما فرط مني في قتل النساء والبنات. فهل عندك شيء عن حديث الطيور؟". هكذا يعترف المستبد بأن حواره الطويل مع زوجته قد غيّر تصوره للعالم. وقاد هذا الاعتراف العديد من الكُتَّاب العرب في القرن العشرين إلى إضفاء سلطة حضارية على النساء عامة وعلى شهرزاد خاصة. وترى فاطمة المرنيسي أن المرأة في الشرق لن تستطيع أن تغيّر وضعيتها إذا اعتمدت على جسدها، أي على الجنس دون العقل. لقد فشلت زوجة شهريار الأولى لأنها جعلت الثورة محدودة في جسدها حين انقادت لعبدها. إن الخيانة الزوجية كمين انتحاري بالنسبة للمرأة. ويعلمنا نموذج شهرزاد أن بإمكان المرأة أن تثور بفعالية شرط أن تفكر. إنها حين تعتمد على قوة ذكائها، تساعد الرجل على أن يتخلص من حاجته النرجسية إلى توافق تبسيطي. إن التاريخ يعلمنا بأن إقامة الحوار تفرض علينا بالضرورة أن نجعل اختلافنا يواجه اختلاف الآخر، وأن نتبين الحدود التي تفرقنا ونحترمها. حين نقدر الحوار في كل أبعاده، نقدر معركة لسنا متأكدين من نهايتها، إذ إننا لا نعرف من سيكون المنتصر أو المهزوم. ولكن دخول معركة غير مضمونة النتائج، يشكل موقفاً يضع الرجل الذي تعوّد على شغل منصب المسيطر في وضعية لا تطاق! وترى المرنيسي أن شهرزاد لو كانت بليدة لكان الملك قطع رأسها. إن رسالة شهرزاد تتلخص بأن السحر كائن فينا. إننا نأتي إلى العالم مجهزين لكي ندافع عن أنفسنا: عقلنا سلاح لا يُقهر. واحترام الذات هو سر النجاح. لذلك بهرت هذه المرأة الشرقيين رجالاً ونساءً في الماضي والحاضر.