مرّ أكثر من ستة عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقبر الجندي البريطاني المجهول في مدافن الموتى المسيحيين في حي البلد جنوبجدة، وهو الوحيد في السعودية، يتلقى أكاليل الورد عند زيارة أي قنصل بريطاني أو غربي للمقبرة. يقول حارس المقبرة المسلم محمد طاهر سوداني الجنسية، عن آخر زيارة للقبر:"قبل نحو شهر حضر القنصل البريطاني لوضع إكليل من الزهور على قبر بريطاني دُفن خلال الحرب العالمية الثانية". من جانبه، أوضح الشيخ عبدالمحسن العبيكان ل"الحياة"الحكم الشرعي لوجود مقبرة لغير المسلمين في بلاد الإسلام بقوله:"لا يوجد مانع شرعي من ذلك، بل إن من الواجب أن تكون مقابر غير المسلمين منفصلة عن مقابر المسلمين، وذلك بحسب آراء أهل العلم". وقبر الجندي البريطاني يجاور قبور مئات الموتى المسيحيين الذين عاشوا في السعودية منذ افتتاح المقبرة في العام 1941. وما زالت حتى الوقت الحاضر تستقبل الموتى من مختلف المناطق السعودية الذين أوصوا ذويهم بدفنهم في السعودية. وعند زيارة المقبرة، يبادر الحارس طاهر إذا شعر بأن الزائر غير مسيحي بالقول:"ممنوع دخول غير المسيحيين المقبرة". وهو يحرسها منذ أواخر عام 2001، بأجر، رفض ذكره خوفاً من الحسد، بحسب قوله، تتناوب القنصليات الغربية على دفعه كل عام. لكنه يقول:"راتبي يقدم لي هذا العام من القنصلية الإثيوبية، بينما العام الماضي كان من الفرنسية". وتمثّل المقبرة قبلة للزوار الديبلوماسيين الغربيين بين حين وآخر. وتُعرف المقبرة بين بعض أهالي جدة القدامى أو المجاورين لها باسم"مقبرة اليهود". ويحيط بالمقبرة سور حجر ذو لون ترابي شبيه، إلى حد ما، بالأحجار الفرعونية القديمة. وتبدو على السور، إضافةً إلى الباب الحديد المزود بمقبضين في جانبيه، علامات القدم. وعند الدخول من بوابة المقبرة توجد على اليمين واليسار غرفتان. الأولى، يقطنها طاهر. والأخرى عبارة عن مكتب يراجعه الزوار لتسجيل أسمائهم وتواريخ حضورهم وإنهاء الإجراءات الرسمية. وفي ساحة المقبرة تأخذ القبور شكلاً طولياً في ترتيبها. وعلى كل منها شاهد، وصُنعت هذه الشواهد من حجر الجير، وتحمل أسماء المتوفين وأعمارهم. وتجد على جوانب بعض القبور أكاليل الورد والشمع، ومجسمات صغيرة من الجبس على شكل صليب، أو هيئة أطفال صغار بأجنحة تقع خلف ظهورهم. وخلال الحديث مع حارس المقبرة عن طقوس الدفن وحفر القبور، قال:"إذا كان المتوفى طفلاً أقوم أنا بحفر القبر. أما إذا كان كبيراً في السن فاستعين بعمال تشاديين في مقابل أجر تقدمه لهم عائلة الميت". وكان آخر من دفن في المقبرة طفل فيليبيني في حزيران يونيو الماضي، ولا تزال تستقبل الجثامين. وقبله مقيم أميركي طاعن في السن. ولا يخفي حارس المقبرة، الذي يؤدي صلواته الخمس في مسجد على بعد أمتار قليلة من المقبرة، حزنه على الأطفال"منذ عملت في المقبرة وأنا ألاحظ أن أكثر الموتى من صغار السن. وعلى وجه الخصوص من الفيليبين". أما عن مواعيد الدفن والزيارات للمقبرة فتكون ما بين الساعة الثامنة صباحاً و5:30 عصراً على مدار الأسبوع. ويشدد محمد طاهر على التقيد بهذه المواعيد. ولا يُستثنى منها أحد إلا في حالات قليلة. وذلك حرصاً منه على الالتزام بالمواعيد المحددة رسمياً. وقد جلب منذ خمسة شهور كلباً لمساعدته في الحراسة. لكنه يصف الكلب ساخراً بالقول:"لا تخشاه القطط".