ليس غريبا على أصحاب محال بيع أدوات الإضاءة أن تكون إجابتهم عن مقبرة النصارى في جدة «لا أعرف» وإذا استجديت شخصا ما، فستكون إجابته «لا تذكر اسمي»، أو «أنا جديد في المنطقة»، لكن بلا شك أن الذي يستطيع الإجابة على تساؤلاتك هو حارس المقبرة يونس الذي يرفض أي حديث أو الإدلاء بأية معلومة وهو يتحدث إليك بغضب، «لن أتحدث دون إذن من القنصلية المشرفة على المقبرة». المقبرة التي تقع في حي البلد «جنوبجدة» بجوار سوق الجنوبية للأدوات الكهربائية، لها مدخلان أحدهما مطل على الشارع العام، وهو مخصص لدخول الجنائز كما يقول خالد المهدي ومحمد صالح، والآخر يسلكه زوار المقبرة عبر ممر من بين محال الإضاءة، وهو ملتصق بغرفة الحارس يونس. جولة «عكاظ» للمقبرة التي تغطيها الأشجار من جميع الجوانب بأطوال شاهقة، لم ترصد وضع لوحة تعريفية أو إشارة تدلك على أنك أمام مقبرة تعود إلى القرن التاسع للهجرة عندما داهمها البرتغاليون عام 948ه، حيث سقط في هذه المعركة مع العثماني التي استمرت من ثلاثة إلى عشرة أشهر عدد من المقاتلين تم دفنهم في موقع المقبرة الحالي، بعد أن نجح القائد حسين الكردي في هزيمة البرتغالي الونز دي ميدا، كما يوضح مدير عام الثقافة والسياحة في أمانة جدة رئيس بلدية المنطقة التاريخية المهندس سامي نوار، «البرتغاليون عمدوا إلى دفن جنودهم في هذا الموقع نظرا لصعوبة حملهم إلى البحر للتخلص من الجثامين أو نقلها إلى البرتغال»، وأضاف «جدة كانت هدفا للبرتغاليين بوصفها أحد مراكز العالم الإسلامي التجارية المرموقة، وهذا التوجه البرتغالي آنذاك دفع السلطان قانصوه الغوري حاكم مصر والشام والحجاز، إلى المبادرة بإقامة سور محصن على جدة عام 915ه زوده بالقلاع والأبراج والموانع المضادة للسفن الحربية، حيث أدى هذا السور مهمته في الدفاع عن المدينة في هذه المعركة»، وبين نوار «هذه المقبرة كما أسلفنا تقع خارج أسوار مدينة جدة آنذاك، والسبب في وجود المقبرة في جنوبجدة يعود لقدوم البرتغاليين لجدة عن طريق الشعيبة». المقبرة التي حظيت بزيارة مندوب الحملة الوطنية لمكافحة حمى الضنك في 13/8/1431ه وحصر وترقيم من التعداد العام للسكان والمساكن العام الماضي، كما تبين الملصقات على الأبواب، لا أحد يعرف كم عدد المقابر داخل المقبرة، لكن نوار يذكر: «فيها قبور قديمة تصل لمئات السنين، بعضها اندثر لاسيما تلك التي في الجهة الشرقية الشمالية فهي الأقدم»، وأضاف «القنصليات الغربية تتناوب على الإشراف على المقبرة، لكن عند دفن أحد فلا بد من الرجوع إلى أمانة جدة للحصول على تصريح الدفن». وبين مدير عام الثقافة والسياحة في أمانة جدة رئيس بلدية المنطقة التاريخية هناك مراجع غربية أوردت معلومات ورسومات عن المقبرة وخريطة توضح موقعها، وقال: «حصلنا على خرائط قديمة تدل على المقبرة». تفاصيل الجولة في الجولة، حاولت أنا وزميلي المصور الحصول على معلومات إضافية لكن الجميع في المحال المجاورة ينتابهم شعور بالخوف لا أدري لدواع دينية أو تخوف أمني لكن إذا استطعت أن تعرف منهم أية معلومة فإنهم يشترطون عليك عدم ذكر أسمائهم، وعلى كل حال تستطيع أن تعرف من حديثهم أنه «يدفن في هذه المقبرة جثامين من الجنسية الهندية والفلبينية، لكنهم لم يشاهدوا جثامين لأشخاص من دول مثل بريطانيا أو أمريكا»، وأيضا تسجل من أحاديثهم «أكثر ما نشاهده يدفن في هذه المقبرة هم من الأطفال ونادرا ما يكون المتوفى كبيرا في السن»، وتتضارب آراؤهم حول آخر جثمان تم دفنه فالبعض قال: «لم أشاهد أي دفن لجثامين منذ سنوات»، والبعض قال: «قبل عام شاهد جثامين تدفن في المقبرة»، ولكن عندما تحاول مرة أخرى زيارة هذه المقبرة من الداخل فإنك ستشاهد أن أغلب المدفونين فيها من صغار السن مثل (أداننا «2007م»، ج.أ.هوقن، بوديما، ماريا تراييوس»2008م»، جيرجي سالم يوسف «2006م»، بيسي «2009م»)،لكن أيضا هناك مدافن لكبار السن مثل (دميتروس «1959م»، إيليا يني وغيرهما)، وجميع هذا القبور وضعت عليها فازات وأكاليل من الورد وفوانيس، وكتبت على بعض منها عبارات مثل «مشتاقين»، و«اشتقنا لك»، لكنها جميعا كتب عليها «نام بسلام». مدينة مفتوحة الباحث التاريخي والإعلامي علي السبيعي أشار إلى أن مدينة جدة كانت في العصرين المملوكي والعثماني مدينة مفتوحة فوجد فيها كثير من النصارى حيث استوطنوا هذه المدينة من أجل التجارة مثل عبدالله فلبي الذي كان له وكالة فورد، والخواجة يني الذي كان يبيع الأجبان والبيض وغيرها، وقال: «ربما تكون هناك مقابر أخرى لا نعرفها حتى الآن سواء للنصارى أو اليهود»، وأضاف «يجب أن نعرف أننا أمام مكان عظيم لم يدرس حتى الآن، وهناك مقابر لم تكتشف حتى الآن»، وأشار السبيعي إلى أن من أشهر من دفن في هذه المقبرة رجل يوناني يطلق عليه إيليا يني، عم الخواجة يني الذي اشتهر في جدة.