كم تمنيت أن أصدّق كلام أصدقائي، أني لست خجولاً. وأنني سبّاق الى المبادرة والتعرف إلى الفتيات، واقتناص فرص ذهبية في لحظات حساسة. غريب أمر أصدقائي. لا يشعرون بما اشعر به حين أكون خجولاً. أتصبب عرقاً، أمسح جبيني وكفيَّ، توتر في أمعائي يجعلها تتشابك في عراك لدقائق. أسمع صراخاً مدوياً داخلي يطالبني بالرجوع الى المنزل، وعدم الاختلاط بجماعة لن أستفيد منها في نهاية المطاف. لوهلة أخضع، ليعود صوت آخر ويهمس"امض بلا خجل". أجلس بين من لا أعرفهم قليلاً، كغريب. أتصنع الضحكات، أشارك في أحاديث وتعليقات بسيطة. ألهي نفسي بتفاصيل صغيرة على الطاولة. أمسك ورقة"كلينكس"وأفتتها. تسيطر علي فكرة الهروب. تحمر وجنتاي بسرعة من أي مجاملة وإن كانت إيجابية. أكره المجاملات، تصيبني بالغثيان. هل تعرف انك شاب جذاب؟ قالت لي إحداهن مرة. تغير لوني وانقلب مزاجي حتى صرت قادراً على الركض بسرعة أميال في الساعة. أتذكر يوم سافرت للمرة الأولى، كنت ذاهباً الى دبي. احتضنتني أمي بقوة، واعتصرتني. أسمعتني طقطقة عظامي. احتضانها لي أرجعني طفلاً يرضع ويبكي ويتمسك بها. غمرة أمي الأزلية جعلتني أعشق السفر وأتمنى في كل مرة أغادر فيها أن أحصل على تلك الغمرة. الا أن السفر تكرر. أما الغمرة فلا تزال ذكرى تدغدغني. اعتادت والدتي سفري، وبات غيابي كحضوري. لكنني أسال نفسي لم لا احتضنها في كل مرّة أراها؟ إنه الخجل ببساطة. في حرب تموز يوليو الماضية, كنت بعيداً من عائلتي. هم كانوا تحت القصف غارقين بدماء أخي الذي أصيب في رأسه، وأنا وحيد في بيروت. أشتاق إليهم، وأكلمهم من دون ان اعبر عن شوقي أو حبي. أغرق بدموعي فحسب. ما هذا السر الغريب. أشتاق الى من أحبهم وأشعر بأنهم وفي أي لحظة قد يفارقون الحياة ولا أتغلب على خجلي. توقف إطلاق النار والتقينا في مدينة صيدا حيث هربوا بعد أن قُصف منزلنا. احتضنتني أختي الصغيرة حين رأتني. شعرت، أنها أمي. ومنذ ذلك الوقت بت أعشق السفر وأحب الحرب. حين أتعب من كثرة الوجوه وضوضاء الشوارع، ألهي نفسي بحوارات ونقاشات حادة. أسأل نفسي ما رأيها بالأزمة السياسية اللبنانية الراهنة؟ كيف نتفادى دخول البلاد في فراغ؟ ما هي مواصفات الرئيس هل علاقتي العاطفية الحالية، جدية؟ أين أقضي إجازتي السنوية؟ أجيب نفسي أحياناً بصوت معتدل يرتفع بحسب سخونة الحديث، فيعتقد الجيران ان أحداً يشاركني مسكني. لكنني أسكن أنا ونفسي وخجلي فقط. لطالما حدّثت نفسي عما أحلم به. أرفض ان أدون آرائي تلك، لأني لا أريد أن أفقد ثقة نفسي فيّ. قد يعتقد بعضهم بأنني أعاني أمراضاً نفسية أو عقداً، إلا انني خجول فقط، وببساطة. كم أتمنى أن أكون وقحاً، وجارحاً. فحين يسيطر الخجل تقل فرص السعادة. كثيرة هي المواقف التي سيطر فيها خجلي علي، فمنعني من التقدم. أتذكر يوم رفضت دعوة فتاة فنزويلية الى الرقص. كانت خارقة الجمال وكنت خارق البلاهة. أحب ان أكون وقحاً. أتكلم من دون مبالاة بمشاعر الآخرين. لو أنني وقح، لمشيت في الشارع من دون ان اضطر الى تغيير وجهة سيري كلما صادفت أحداً لا أريد أن ألقي التحية عليه. كنت عانقت أمي متى شئت. كنت حولت خجلي الى سلاح ضد التعجرف والادعاء، وكنت راقصت من أشاء وساعة أشاء، وتوقفت عن فتح نقاشات بيني وبين نفسي. لو يتوقف احمرار وجنتي، وتعرّق كفي. لو انني وقح لحررت جسدي وحركته على وقع الموسيقى... ولكنت استغليت عمري بلا خجل. لست عديم الثقة، ولا ضعيف الشخصية. اختبرت نفسي في مرات عدة لأثبت ذلك ونجحت. إلا أن الخجل بات سمة مرافقة لي. حين قررت ان أختبر خجلي، تحديت شخصاً معروفاً بمواقفه الجريئة وسطوة لسانه وعباراته الرنانة. كنا في جلسة في أحد المقاهي. يومها وبالصدفة قررت ان أكون وقحاً فرحت أهاجم ذلك المدعي، مطلقاً عليه الشتائم، مذكراً إياه بهزائمه السابقة وبتكرار فشله الجامعي، وبطرده من منزل والديه. كانت الصدمة صاعقة للجميع، أفرغت ما في جعبتي وانصرفت عارم الصدر، من دون ان التفت الى الوراء. فوجئت بما فعلته، وكيف استطعت ان اكبت مشاعر خجلي وأحولها الى هجوم بقنابل صوتية. لم تتكرر الحادثة معي، وبت اشتاق الى السفر والحرب... والى أن أكون وقحاً.