لا صوتَ. صمتٌ ثقيل عميق. فجأة وجدتُني داخل هذا السكون الغريب. أدبّ وحدي بحرية في هذا الوجود. كلّ شيء توقف. فاستحالتْ الحيوات الى تماثيل. لا حركة، لا ضجيج. ماذا جرى للناس، وللعصافير، والذباب والكلاب والحافلات والنيران والكركرات وصياح الباعة!! أظنّ أنّ الزمن توقف. مثلما يهمدُ صوت الرحى. فضاء مزدحم بكائناته. لكن، توقف كل شيء في مكانه... ما عاد بوسع أي كائن أن يتحرك، ان يصدر أصواتاً. أن يعلو فوق هذا السكون الذي غشيَ دنيانا. وبوسعي أنا - الحيّ الأوحد - أن أفعل الساعة الأفاعيل. أن أغرس مدية في صدر خزعل المرابي الذي يتوطن الجشع فيه حدّ رغبته في نزع جلود الفقراء وأكل لحومهم. وفي مُكنتي أن أذهب أبعد من ذلك. أنهي حياة الظالمين وسرّاق أقوات الناس، أحزّ رقاب التجار الذين أشعلوا الأسعار. أستطيع الآن بكل سهولة أن أحرق الدنيا، أصب الزيت فوق رؤوس الجبابرة، أرمي جثثهم الى النيران وهم يتحصنون في صياحيهم المحصنة. أنا أستطيع في هذه اللحظة ان أفتح أبواب السجون وأقول للمظلومين: ها هي الأبواب مفتوحة فاخرجوا من ظلمات الدهاليز الى النور. بيد أني لم أفعل شيئاً يخلّ بقانون الحياة، هذه الحال طارئة لا محالة، ربّما كنتُ أحلم، فليس في قدرة الحالم تغيير ثوابت الحياة، ولحظات الحلم كالومضة ثم تنتهي. من يصدّق أني أرى الزمن يتوقف فيهمّش كائناته وأشياءه. أرى خزعل المرابي صاحب الحانوت الكبير في محلتنا كعادته خلال أكوام من البضائع التي يحلم بها الفقراء. معلبات، اجبان، بيض، دفاتر، أقلام، أوان منزلية، وكلّ ما تحتاجه العائلة، وكان شكله يثير الضحك فاستحال تمثالاً من الجشع والشراهة والغدر والغش. إنه يغشّ بلا حياء، وله علاقات مريبة باللصوص الكبار وتجار الحرام. وكان في متجره في هذه الظهيرة القائظة زبونان أحدهما متقاعد كبير السن أعرفه جيداً تقاعد منذ سنوات، وراتبه أشبه بالفقاعة يأخذه من هنا ليختفي في لحظات هناك. يحمل بيد بيضتين، ويده الثانية تناول نقوداً لخزعل الذي تفترس عيناه الذئبيتان وجه حليمة المرأة الباسقة، البهية الطلعة، وقد ابتلعت الحرب زوجها العسكري منذ سنوات وسجّل على أنّه مفقود تاركاً ثلاثة يتامى للجوع والتشرد. كان أهل المحلة على دراية وعلم بعلاقاتها المشبوهة بخزعل الذي استطاع بكلّ وسائله الدنيئة ان يسحب هذه المرأة الباهرة الجمال الى شباكه. ها هما وجهاً لوجه في هذه الظهيرة الساخنة. نظرات شيطانية وشهوانية تمتدّ بينهما والشيخ المسن ما زالت يده تمتد نحو خزعل حاملة ثمن البيضتين. صحتُ، صرخت، شتمت. ضربتُ حليمة على قفاها، سحبتها، لكنّ محاولاتي كانت بلا جدوى. إنها ثابتة وراسخة مثل جذع شجرة. توغلتُ داخل الدكان، سحبتُ جرارة النقود، كانت مليئة بالآلاف، وتحتها صفيحتان كبيرتان مملوءتان بالدنانير، في نهاية المتجر باب خشبي أنيق، عندما دفعته بانت وراءه غرفة واسعة فيها سرير مزدوج ومروحة وثلاجة ومكيف هواء. إذاً هذه جنته، عرينه الذي يقترف فيه الفواحش فيختلي بالنسوة ضعيفات النفوس مثل حليمة، بعد إيقاعهن في حبائله. عدتُ تجاهه، نظرته عن كثب رجل في الخامسة والستين، يصبغ شعر رأسه وشاربه إلا ان جلد رقبته يشي بسنواته. مددتُ يدي الى جيب قميصه فأخرجت رزمة من الدولارات تربو على خمسة آلاف. أعدتها الى جيبه، وبودي لو آتي بصفيحة من النفط، أصبّ ما فيها عليه وعلى حليمة وعلى بضائعه وأخلّص الفقراء من ظلمه وشراهته. بيد أني تريثت فعقاب الظالمين حق لله إنه يمهلهم ولا يهملهم. وكان وجهه في هذه اللحظة التي استطيع فيها أن أراه بهذا الوضوح ومن هذا القرب يكتظ بالغدر والشراهة، لا ينطوي أبداً على ذرة من الحياء والطيبة، كلّ الوجوه تحتوي على شيء من النور الإلهي إلا وجه خزعل، هذا اللص الذي يسرق الناس في وضح النهار. فسعر البيضة في كل مكان بثمانين ديناراً وهو يبيع زوجاً من البيض بمئتي دينار. وهكذا تسري الزيادات على الأجبان والألبان والطحين والحبوب والتمر والسكر والسمن والشاي... بعد قليل، بعد ان أصابتني هذه اللقطة بالغثيان والدوار، أعطيتُ هذا المرأى الفاجع ظهري وغادرتُ المتجر الكبير. وأينما ذهبتَ كانت المشاهد ذاتها، توقف الزمن، وسكن هدير الحياة ما عدتُ أسمع نبأة، فلا صراخ ولا بكاء ولا كركرة طفل ولا أنين. تحوّل الناس الى تماثيل. عيون زائغة تنظر وتبحلق. ابتسامات جامدة... أياد كانت تتحرك قبل قليل عالية وسافلة. وحدي أتمتع بآلاء الحياة... غير أني أحس أن أذنيّ مملوءتان بالطين، لا صوت، لا حركة... قبل دقائق كنت في سوق الخضار المزدحم دائماً بالناس، خضار تأتي وأخرى تباع وتختفي ويؤتى بغيرها. بطيخ وشمام، طماطم وقثاء، باذنجان وفلفل، بصل وثوم، كرفس ومقدونس. ورأيت موظفين عائدين من دوائرهم مثلي يمرّون على السوق فيملأون أكياساً بالخيرات يحملونها الى عوائلهم. كانوا في أوضاع متباينة بعضهم كان محنياً على سلة مملوءة بالطماطم والبصل، وآخرون مشاة يبحثون عن أشياء منزلية. يبدو ان الهواء قد توقف أيضاً، فذا دخان سيجارة هذا الرجل يهوم لصق منخريه، وكان النهار التموزي في الثانية ظهراً أشبه بالفرن فقد ضاق صدري. تباطأ تنفسي، وغير بعيد صبي يمتطي دراجة وداخل سلة أمامه قطعة ثلج كبيرة، إنه من فوق دراجته ينظر الى أمام، أشبه بتمثال جميل، يتفصد جبينه عرقاً، وقطرات مائية هامية من الثلج بفعل حرارة النهار الصيفي عالقة بين السلة والأرض. يا إلهي هذه لحظة لن تُنسى... كنت أعود ماشياً الى البيت وغبّ أن تجاوزت المقبرة عرجتُ على المخبز القريب من بيتنا، ثمة طابور من اهل المحلة أمامه. وأطللتُ على الداخل حيث تفتح ثلاثة تنانير أفواهها يلقمها عامل دوائر العجين، وآخر يخرج أقراصاً من الخبز وثالث يوزّع الخبز على الزبائن. كلهم واقفون، ولكل واحد وضع معين. لمست بأصابعي رغيف خبز، كان ساخناً ذا رائحة طيبة. ولطالما أحببتُ الخبز الحار يومَ كانت عمتي خلال طفولتي البعيدة تضع فوقه قطعة زبد وترشّ عليه ذرات من السكر... ياه، أين صارت أيامي تلك!!! وكيف سأعيش لو استمر الحال هكذا، اقتربت من فتى أعرف أباه، ضربتُ برفق على وجهه. كان جلده طرياً رطباً، وتأملت الوجوه نظراتها متباينة، ضحك، تجهم، قتر، أفواه مغلقة وأخرى مفتوحة، ورائحة العرق تصعد من اجسادهم، وكان حرّ الفرن وحرّ النهار التموزي التحما سوية داخل المخبز وحوله فشكّلا ثنائية من السعير غير المعقول... وقبل ان ألج زقاقنا رأيت ام سعد تقف في منتصف الباب تنحني قليلاً الى الأمام حاملة بكلتا يديها سطلاً بلاستيكياً يمتد ماؤه البني - ماء الغسيل - بين فوهة السطل وبلاط الزقاق... صورة عجائبية لا يمكن رسمها بهذه الواقعية الحميمة. إنها ترتدي قميصاً وردياً شفيفاً مزهراً واستطعتُ رؤية صدرها الناهد. رباه هذه لقطة سحرية استثنائية لن تتكرر أبداً ولن أنساها ما حييت. إنها في هذه اللحظة تغمض عينيها متحاشية رذاذ الماء، وربما كانت تحاول الاختفاء عن نظرات الناس، على رغم خلو الزقاق إلا من صديقتي لبنى التي كانت تنتظر كعادتها أوبتي من الدوام مثل بقية الأيام. وتقف في منتصف الباب فلا تراها أم سعد. نسيت ام سعد فاقتربتُ من حلمي الشفيف لبنى، كانت ترتدي ثوباً أصفر خفيفاً يلتصق بجسدها الممشوق، وعلى رغم اننا كنا نتحاور احياناً عبر كلمات مختصرة وبسرعة خوفاً من أهلها، أو بالنظرات المتبادلة، وأحاديث العيون أبلغ احياناً من الكلمات، إلا أنني لم أقترب منها كما هو الآن. ورأيتُني أقف قبالتها وجهاً لوجه. لأول مرة أراها من هذا القرب. جسم بضّ بلون البلور، قوام باسق نحيف، وعنق طويل صقيل ووجه مدوّر أودع الله فيه كل إبداعه الربّاني، عيناها سوداوان صافيتان محاطتان برموش طويلة حالكة وشعر سلس يشعّ سواده وينتهي بجديلتين، إحداهما تنام فوق ظهرها حتى الوركين والثانية تنهمر على كتفها وذراعها، فمُها أشبه بزهرة. كنتُ خائفاً جداً، خائفاً من أن ينتهي هذا الوضع الزمني الاستثنائي في لمح البصر، وتراني ملتبساً بجريمة الاقتراب منها الى هذا الحدّ. غير أني مددت أصابعي نحوها، نحو التمثال الزنبقي. لمست وجهها، كان جلدها دافئاً ناعماً، ثم تحسست شفتيها، وكم وددت لو أطبع قبلة على فمها المورّد الزاكي، وعلى رغم طغيان عاطفتي إلا أني وبشكل عنيف شعرتُ بتأنيب الضمير، ثم خجلت من تصرفي. كانت لبنى في تلك اللحظة تضع إحدى يديها على خاصرتها، وتستند بالأخرى على إطار الباب الأزرق. حرّكتُ أساورها الذهبية، كانت بهية خارقة الجمال، ساكنة جامدة ترنو الى الطريق، وكان بودي لو أقولُ لها: ذا أنا أمامك، فلم أكن قريباً منك أبداً الى هذا الحد. عندما ابتعدتُ عنها وأنا أهمّ بدخول بيتنا، بدت لعيني مثل لوحة انطباعية هي بثوبها الأصفر، وقامتها المديدة ونظراتها الساهية، تقف في منتصف الباب الأزرق لحظتئذ غشيني خوف مجهول. خفتُ استمرار هذا الوضع الى ما لا نهاية فما قيمة الحياة والوجود تتمتع بآلائهما وحدك تصول وتجول داخل فراغات ساكنة هامدة، ومن حولك الأحياء الأحباب كالأموات. تفتقد الى نبضهم وعواطفهم، قلت لنفسي: إلهي اجعل لهذا الوضع نهاية أو اجعلني مثلهم وإلا فسوف أجن. أو أقتل نفسي، كنت أرتعش خوفاً واكتظ رأسي بالصواعق والرعود والكوابيس الثقيلة. لم أكد أدخل البيت حتى وجدتني امام مشهد آخر غرائبي، أبي وأمي وأخي الصغير يجلسون حول صينية الطعام ستغرقين في تناول الغداء خلال فسحة الظل داخل الفناء القريبة من الحديقة المربعة الصغيرة حيث تتوسطها شجرة التوت حاملة الحبات الحمر، وحولها أزهار الجوري والرازقي وأعواد الريحان، وكانوا أيضاً مستغرقين في الصمت الأزلي، كان أبي يهمّ بوضع لقمة في فيه، وأمي تسقي أخي شيئاً من الماء. عينا أبي زائغتان تبحلقان في شجرة التوت، أمي تنظر الى أخي، وأخي يسبل اجفانه كأنما كان يستسلم الى النعاس. وثلاثتهم بلا حراك. كما ان العصافير كانت ساكنة فوق الشجرة وقد اختفت زقزقاتها، وضجيجها المموسق. وبسرعة بدّلتُ ثيابي وغسلت وجهي ويديّ. وانضممت الى أهلي بجانب سفرة الطعام... ولم يمر على جلوسي بضع ثوان حتى تناهى إليّ هدير الحياة، بدءاً كان بطيئاً رتيباً ثم تسارع ايقاعه. وحدي أحسست بعودته، بعدئذ اختفى الوضع، وسمعت أصواتاً زقزقة العصافير، شهقة اخي الصغير وهو يشرب الماء، سؤال أبي متى عدت فلم يرك احد وأنت تدخل البيت؟ دهشة امي من جلوسي الى جانبهم. قلت لأبي بعد ان أعاد سؤاله مرة أخرى: عدتُ قبل قليل، كنت على عجلة من أمري أريدُ الوصول الى الحمام فلم يلحظني أي منكم، وأردت أيضاً أن يكون وجودي الى جانبكم مفاجأة. أيّ أحمق أنت؟ قال أبي مستاء، وهل عودك من الدوام تعتبره إحدى مفاجآتك الغريبة، هيا كل قبل ان يبرد الطعام. لن يبرد بهذه السرعة والنهار قائض والحرارة تجاوزت حدودها القصوى وسمعت أمي تقول: لا تجادل أباك وإنه محق. فالطعام الحار أطيب وألذ ولا أدري حتى هذه الساعة أكانت مبرراتي مقنعة أم لا. إلا أني لم أجرؤ على إخبارهم حقيقة الأمر، كون الزمن والحياة توقفا وتحوّلت الأحياء الى محض هياكل مجردة من ايّما حركة أو نشاط، كان كل شيء ساكناً توقف في لحظة ما. كيف أقول لهم أنكم كنتم قبل قليل أشبه بالتماثيل وأشكالهم كانت تثير مخاوفي ولو استمر الوضع على حاله لأصبت بالجنون، ولئلا اتهم بالخبل ينبغي ان تظل الأمور سراً من الأسرار احتفظ به لنفسي، كنت سعيداً أيضاً، فلا أحد من اهلي أثار مزيداً من الأسئلة التي لا أستطيع الإجابة عنها... حين انتهينا من الغداء وددت لو أطل من الباب على الزقاق كانت لبنى لمّا تزل واقفة تنتظر، يا إلهي ألا تملّ من الانتظار!! وكدت أنساها في غمرة ارتباكي، حين رأتني استغربتْ وجودي دون ان تلاحظ دخولي البيت، ومن دون ان اسلّم عليها. فضربتْ إطار الباب مستاءة. صاحت بعصبية وللمرة الأولى أراها منفعلة بهذا الشكل من دون ان تخاف وهي تخاطبني: متى عدتَ، فلم أرك تدخل البيت!! عدتُ مبكراً. فقد أصبت بالصداع، وكان علي أن أرتاح.ردّت بسخرية: لا أصدق هذا الكلام، ولا يبدو عليك انك تعاني صداعاً، وكانت خائفة من اهلها فلم ترد ان يطول مكثها في الباب مطلة على الزقاق، لذلك طبعت قبلة على أصابعها، ثم رمتْ قبلاتها نحوي. وطيّرت بدوري قبلات إليها قبل ان يراني احد، اختفت لبنى وراء الباب الأزرق، وكان بودي لو أحضرُ فرشاة وأصباغاً ملونة وأرسم صورتها فوق لوح الباب الأزرق كما رأيتها عند توقف الزمن. وكان بودي أيضاً لو استطعتُ ان أرسم الزمن عند توقفه، وأتوقف قليلاً عند تلك الكائنات التي رأيتها تتحوّل الى تماثيل من لحم ودم دونما حراك، أو إحساس. فمن كان بوسعه ان يرسمني أنا ؟ * كاتب عراقي مقيم في السويد.