لم يعد في الإمكان اليوم إدارة اقتصاد اية دولة بغض النظر عن تأثير سياسات دول اخرى، خصوصاً دولة كبرى كالولاياتالمتحدة. فالسياسات المالية والنقدية والتجارية للأخيرة لا تقتصر آثارها على داخل الاقتصاد الأميركي، إنما تصدرها إلى بقية انحاء العالم بدرجات مختلفة. وإذا كانت اقتصادات تجمعات ودول كبيرة كالاتحاد الأوروبي والصين واليابان وروسيا تتأثر بنتائج هذه السياسات، فما هي حال الدول الصغيرة والنامية والمحدودة الدخل.؟ سبق أن تطرقت في مقال نشرته"الحياة"في تشرين الأول اكتوبر 2007 إلى تأثير انخفاض سعر الدولار على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي التي تتأثر كثيراً به نتيجة مجموعة من العوامل، في مقدمها تسعير النفط بالدولار ثم ربط عملتها به وارتفاع حجم استيراداتها من دول ارتفعت اسعار عملاتها نتيجة لانخفاضه، وأخيراً وليس آخراً ارتفاع حجم احتياطاتها بالعملة الأميركية. لكن الارتفاع الكبير في موارد هذه الدول نتيجة لارتفاع سعر النفط المصاحب حالياً لانخفاض الدولار، يجعلها في وضع افضل بكثير، في مجال التعامل بانخفاض سعر الدولار وارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية، من دول عربية غير غنية بالنفط وتشمل مصر وسورية ولبنان والأردن وفلسطين واليمن وتونس والمغرب وموريتانيا. لا شك في أن حجم الآثار التي يتركها انخفاض سعر الدولار على الدول العربية غير الغنية بالموارد النفطية، يرتبط في شكل دقيق بواقع اقتصاداتها، المتمثل بافتقارها الى التنوع وضعف تنافسيتها في أسواق خارجية وداخلية، وتزايد اعتمادها على الاستيراد بما فيه السلع الأساسية واستمرار الاعتماد على الدعم الحكومي للاسعار بسبب انخفاض مستوى المعيشة، وتزايد عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، بينما يتفاقم العجز في الموازنات الحكومية ويرتفع حجم الدين الخارجي. وأدى الانخفاض الحالي في سعر الدولار وما صاحبه وتزامن معه من ارتفاع في اسعار السلع الأساسية كالغذاء والمعادن، بما فيها النفط، الى ارتفاع فاتورة استيراد هذه السلع بينما هي تعاني اصلاً من عجز الموازنة الحكومية والميزان التجاري، ما دفع بعض الحكومات الى اتخاذ خطوات لرفع الدعم عن اسعار السلع الأساسية والوقود لإشعار الأفراد بأن عليهم المشاركة في تحمل مسؤولية ما يحصل في الاتصاد العالمي، على رغم الضرر الذي يلحقه رفع الدعم بالطبقات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: هل يعتبر رفع الدعم عن اسعار سلع أساسية الحل الوحيد امام الحكومات لمواجهة الاتفاع في فاتورة الاستيراد؟ وهل يمكن الاستعاضة عنه بإجراءات اخرى مثل رفع قيمة العملة أو تغيير مناشئ الاستيراد؟ تعتبر عملات بقية الدول العربية غير الغنية بالنفط وهي الدينار التونسي، والدينار السوداني، والأوقية الموريتانية والليرة اللبنانية والجنيه المصري والريال اليمني باستثناء الليرة السورية والدينار الأردني اللذين يرتبطان بسعر ثابت مع الدولار وبذلك يتحركان باتجاهه ذاته، اي انهما انخفضا بتأثير من الانخفاض الحالي للدولار، عملات معوّمة. والعملات الخمس الأولى معوّمة تعويماً مداراً، أي توجهه السلطة النقدية حتى لا يتجاوز هامشاً معيناً ارتفاعاً وانخفاضاً، بينما الجنيه المصري والريال اليمني معوّمان تعويماً حراً. وبين 2003 و2006 ارتفع سعر الجنيه المصري بنسبة 7.3 في المئة أمام الدولار بينما انخفض سعر الريال اليمني بنسبة 7.7 في المئة. ولا ينصح عادة برفع سعر العملة المحلية لأغراض استيعاب الارتفاع في اسعار الاتيرادات للدول ذات الاقتصادات الضعيفة، التي لا تمتلك موارد كبيرة من احتياط النقد الأجنبي الذي يساعدها على التدخل للحفاظ على القيمة المرتفعة للعملة. إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع سعر العملة المحلية يقلل من تنافسية صادرات هذه الدول، بينما يفترض منها اتخاذ إجراءات تساعد على زيادة صادراتها وليس تقليصها. أما عن تغيير مناشئ الاستيراد من أسواق مرتفعة الثمن إلى أسواق رخيصة، فالارتفاع في بعض الأسعار هو عالمي ولا يقتصر على سوق واحدة من دون أخرى. كما أن الارتباطات التجارية لا يمكن تغييرها في الأمد القصير بسهولة لأنها قد تكون محكومة باتفاقات مسبقة تتضمن شروطاً كمية وزمنية. وتحكمها ايضاً تكاليف النقل التي تتأثر أيضاً بانخفاض سعر الدولار وارتفاع اسعار النفط. فانخفاض اسعار السلع الأميركية على سبيل المثال، نتيجة لانخفاض سعر الدولار، لا يجعلها اكثر ملاءمة من السلعة ذاتها من مصادر اخرى، بسبب بعد المسافة الجغرافية بين الولاياتالمتحدة والدول العربية. واذا استُبعد قرارا رفع سعر العملة وإحداث تغيرات جوهرية في مناشئ الاستيراد للأسباب المذكورة أعلاه، فإن السؤال الذي يطرح هنا هو: ماذا تستطيع الحكومة عمله غير رفع الدعم عن اسعار المواد الأساسية والوقود أو تقليصه؟ لا بد من الاعتراف ان لا حلّ سحرياً لمعضلة ضعف قدرة الحكومات في الدول العربية غير الغنية بالموارد النفطية، على الاستمرار في استيعاب الزيادات الحاصلة في الأسعار العالمية وعدم المس بأساسيات معيشة الغالبية من السكان. وهذه المعضلة بالتأكيد لم تخلقها الظروف الآنيّة، أي انخفاض قيمة الدولار وارتفاع الأسعار العالمية للسلع، إنما هي نتيجة فشل سياسات التنمية في هذه الدول في تنويع اقتصاداتها كما فعلت دول في أميركا اللاتينية مثل البرازيل التي قلصت نسبة القهوة في إجمالي صادراتها من أكثر من 60 في المئة في الستينات من القرن الماضي إلى 5 في المئة فقط في نهاية القرن. كما لم تتمكن من رفع مستوى الإنتاجية وتأمين فرص عمل تكفي لرفع مستويات المعيشة فيها بحيث تقل الحاجة إلى تدخل الدول لدعم الزيادة في الأسعار. لكن، للتخفيف من حدّة هذه المعضلة في الوقت الحاضر يمكن تقديم الاقتراحات الآتية: 1 - محاولة اعادة توزيع الدخل من طريق تأسيس صندوق هدفه الاستمرار في دعم السلع الأساسية التي تستهلكها شرائح ذات دخول متدنية من ضمنها البنزين المستخدم في سيارات الأجرة يمول من طريق فرض رسوم على أنشطة تمارسها شرائح اجتماعية ذات دخول عالية ومتوسطة، مثل السفر وارتياد المطاعم ودور السينما والمسارح واستهلاك السجائر والمشروبات الروحية. وعلى الحكومة أن تشرح في وسائل الإعلام اهداف خطوة كهذة للمواطنين لكسب تأييدهم. 2- قيام مجلس اقتصادي واجتماعي للجامعة العربية بالدعوة إلى اجتماع يطلب فيه من الدول العربية النفطية التي ارتفعت ايراداتها كثيراً نتيجة الارتفاع الحالي في اسعار النفط، مساعدة دول عربية غير غنية بالنفط، خصوصاً تلك لا تمتلك موارد نفطية وذلك من خلال الخطوات الآتية: أ - بيع النفط إلى هذه الدول بأسعار مخفضة عن الأسعار العالمية" ب - وضع ودائع لدى البنوك المركزية لهذه الدول لمساعدتها على مواجهة الزيادة في الاستيراد ودعم الاقتصاد المحلي" ج - تشجيع استيراد السلع الزراعية والصناعية من الدول العربية غير النفطية. علماً أن هناك امكانات لتطوير التجارة العربية البينية وزيادتها لأنها تمثل حالياً، باستثناء النفط، نسبة لا يستهان بها مقارنة ببقية التجمعات الإقليمية في العالم تصل إلى 30 في المئة. د - استثمار الدول الغنية بالنفط في مشاريع تصفية منتجات النفط في الدول العربية غير النفطية، بإنشاء مصافٍ جديدة وتطوير المصافي القائمة أو المتوقفة عن العمل. ومن شأن خطوة كهذه أن تفيد الطرفين، خصوصاً أن بعض الدول النفطية تصدر النفط الخام الآن وتستورد المشتقات النفطية بسبب عجزها عن توفيرها محلياً. ه - الاستثمار في مشاريع نقل الغاز والربط الكهربائي بين الدول العربية كحل للاختناقات التي يواجهها بعضها في عرض الطاقة الكهربائية والغاز. * باحثة وكاتبة اقتصادية.