قد تكون السيدة هيلاري كلينتون، ومعها العديد من الديموقراطيين، مطمئنة إلى أنها تسير بثبات، وإن اعترى سيرها التعثر العرضي بين الحين والآخر، للفوز بالرئاسة الأولى. ولكن هذا الاطمئنان ليس ناجماً عن نجاح كلينتون بكسب التأييد الواسع النطاق في المجتمع الأميركي بقدر ما هو عائد إلى انتفاء البديل الجمهوري لها. بل الواقع أن الحزب الجمهوري يشهد أزمة فعلية أخطر من الخسارة الانتخابية التي تبدو اليوم محتمة. وإذا كان المعترك السياسي الأميركي ساحة كر وفر بين الحزبين اللذين يستأثران بالحضور الفعلي فيه، أي الديموقراطي والجمهوري، فإن الواقع الثقافي والاجتماعي هو بدوره ساحة نزاع وتجاذب بين توجهين، تقدمي ومحافظ. فالتوجه التقدمي هو الداعي إلى معالجة فاعلة للتمييز الذي شهدته الولاياتالمتحدة عبر تاريخها بحق أوساط مختلفة، عرقية وجنسية وطبقية، وذلك من خلال البرامج التصحيحية والتعويضية التي يتولاها المجتمع والدولة على حد سواء. أما التوجه المحافظ فهو الذي يرى في هذه الطروحات مشروعاً عقائدياً من شأنه تقويض القيم والأسس التي قامت عليها الولاياتالمتحدة، فدعوته بالتالي هي إلى اعتراض الخطوات التقدمية وتحصين الأطر الرسمية والأهلية لمنعها من التحقق. وإذا كان التوجه التقدمي قد تمكن من توطيد قناعاته في الثقافة والمجتمع والتشريع من خلال النجاح الذي حققته حملة الحقوق المدنية في الستينات، فإن التوجه المحافظ، ابتداء من الثمانينات، قد تمكن من استعادة زمام المبادرة في السجال، فارضاً على خصمه موقفاً دفاعياً حتى في الأوساط التي يشهر التوجه التقدمي العمل لمصلحتها. ورغم أن اختزال قراءة الحالة الأميركية غالباً ما يدمج التوجه التقدمي بالحزب الديموقراطي، والتوجه المحافظ بالحزب الجمهوري، فإن صحة هذا الدمج محدودة، إذ للتوجه المحافظ حضور في الحزب الديموقراطي، ولا سيما في الجنوب الأميركي، وللتوجه التقدمي تأثير على مواقف بعض الجمهوريين في المسائل الاجتماعية. غير أن نجاح التوجه المحافظ بالإمساك بزمام المبادرة ثقافياً في العقود الأخيرة دفع الحزب الجمهوري إلى محاولة الظهور بمظهر المجسّد لهذا التوجه سياسياً، وأرغم الحزب الديموقراطي على اعتماد لغة"الوسطية"، وإن على حساب تبديد قدرته على تعبئة قاعدته التقليدية المستفيدة من طروحات التوجه التقدمي والمستجيبة لها. فوصول بيل كلينتون، زوج هيلاري، إلى سدة الرئاسة عام 1992 واحتفاظه بها عام 1996 كان انطلاقاً من اعتناق"الوسطية". وقد شكل لجوء الحزب الديموقراطي إلى الوسطية تحدياً لخصمه الجمهوري الذي اضطر إلى مزايدات خطابية تمنع استنزاف الديموقراطيين لأوساط كان الجمهوريون قد نجحوا باستمالتها في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان. والرد على هذا التحدي كان ببروز وجوه جمهورية تنحو بدورها منحاً وسطياً. فالأزمة التي يواجهها الحزب الجمهوري اليوم أن هذه الوجوه قد بلغت الصدارة في الحزب، وهي وإن كانت قادرة على التصدي للامتداد الديموقراطي إلى بعض الشرائح الاقتصادية الاجتماعية، فإنها من جهة أخرى قد تتسبب بقطيعة مع أهم القواعد الانتخابية للحزب الجمهوري، أي الفئات المحافظة اجتماعياً. ثلاثة متنافسين من أصل أربعة طليعيين يسعون للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة ينطبق عليهم هذا التقييم: رودي جولياني، جون ماكين، ميت رومني. رودي جولياني هو اليوم المتنافس الأوفر حظاً بالحصول على ترشيح الحزب الجمهوري. هو عمدة سابق لمدينة نيويورك، كان في ذاك المنصب يوم وقوع الاعتداءات في 11 أيلول سبتمبر 2001، فشهرته على مستوى الولاياتالمتحدة ككل قائمة على أدائه يومها. وجولياني حذق في التعامل مع الجمهور، وقدراته الكلامية مشهودة. إلا أن له من المواقف والفصول ما يجعل منه مرشحاً صعباً على أكثر من صعيد، مالياً وإدارياً وأخلاقياً. أما المشكلة الفعلية التي تواجه ترشيحه، فهو أنه يؤيد حق النساء بالإجهاض. والموقف إزاء هذا الحق هو المسألة الفاصلة بالنسبة للجمهور الواسع المتجاوب مع التوجه المحافظ. ولسان حال هذه الأوساط التي تصف نفسها بأنها"مناصرة للحياة"هو أنها في الانتخابات الماضية لم تقترع لصالح المرشح الجمهوري لانتسابه إلى الحزب الجمهوري، بل لأنه كان دوماً"مناصراً للحياة"، على خلاف المرشح الديموقراطي المؤيد عادة لحق المرأة بالإجهاض. فاختيار جولياني مرشحاً للحزب الجمهوري قد يشكل تحولاً نوعياً في العلاقة بين هذا الحزب والتوجه المحافظ الذي كان الجمهوريون يعتبرون تصويته لصالحهم تحصيل حاصل. وليست هذه القضية نظرية وحسب. فالرئيس المقبل سوف يعيّن على الأرجح عضوا جديدا للمحكمة الدستورية العليا، وهي اليوم على شفير كون غالبية من القضاة الذين يشكلونها توافق على إبطال التشريع الذي منح النساء في الولاياتالمتحدة الحق بالإجهاض. فالاعتراض المحافظ على جولياني ليس شكلياً فقط، فخشية المحافظين هي أن جولياني سوف يعرقل هذا الإبطال، وقد حاول الالتفاف على الاعتراض من خلال التأكيد بأن اختياره للعضو العتيد للمحكمة العليا سوف يكون على أساس التزامه بقراءة تفسيرية لا تأويلية لنص الدستور، مما قد يوحي للمحافظين الذين يعتبرون أن استنباط الحق بالإجهاض من النص كان تأويلياً أن خياره سوف يأتي لمصلحتهم. ولكن ذلك ليس كافياً لإقناع العديد من المحافظين بالتصويت له، فالحديث في أوساطهم هي عن"تمرد"من خلال التصويت لمرشح حزب ثالث وإن كلّف ذلك الجمهوريين الفوز بالرئاسة. وإذا كان جولياني اليوم غير قادر على التراجع عن تأييده لحق النساء بالإجهاض، فإن العديد من المحافظين ينظرون بعين الريبة إلى كل من جون ماكين وميت رومني، وهما اليوم من"مناصري الحياة"، إذ كانت لهما مواقف مختلفة في الماضي. وميت رومني خاصة حديث السن كمناصر للحياة، فهو لم يحسم موقفه بهذا الاتجاه إلا بعد أن تحقق له الفوز بحاكمية ولاية ماساتشوستس، والتي يغلب عليها التوجه التقدمي الذي يحبذ"مناصري حق الاختيار"ويعتبر الاعتراض على حق النساء بالإجهاض تدخلاً رجعياً بحياتهن. فحداثة هذه القناعة تأتي لتضاف إلى كون رومني من الدين المورموني المنشق عن المسيحية لتعترض إمكانيته بكسب ثقة هذا الجمهور. وكما حال رومني، كذلك حال ماكين المتهم لدى المحافظين بالاستعلائية وبالتعاطف مع المواقف التقدمية الاجتماعية. فليس للجمهوريين اليوم إذاً إلا المتنافس الطليعي الرابع، فريد تومسون، وهو أقل الأربعة خبرة وأداء، كمرشح عتيد قادر على استقطاب القاعدة المحافظة من خلال مواقفه الثابتة في"مناصرة الحياة". وهذه الشحة قد تفتح االأبواب أمام متنافسين آخرين، إلا أن ذلك من شأنه أن يزيد من الضعضعة في صفوف الجمهوريين. والقضايا الرئيسية التي تتجاذب الهم الانتخابي هي ثلاث: قضية أمنية، وأبعادها تتضمن الجوانب الخارجية، أي الحرب في العراق والحرب على الإرهاب ومسائل التعذيب وسجن غوانتانامو، والجوانب الداخلية، أي الرقابة والقيود على حرية الحركة والتعبير، ثم قضية اقتصادية، ومن تفاصيلها مواجهة العجز المتنامي والتوقعات المرافقة لتقاعد جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى أزمات الديون العقارية المستفحلة والعمالة الوافدة غير الشرعية، وأخيراً قضية اجتماعية أهم تفاصيلها معركتان: الأولى باتجاه تعريف الزواج بما يمنع انطباقه على المثليين والثانية تثبيت الحق بالإجهاض أو إبطاله. فكما أن القاعدة المحافظة منعت فوز المرشح الديموقراطي جون كيري في الانتخابات الرئاسية الماضية عام 2004 لاعتبارات اجتماعية، فإن هذه القاعدة تطالب الحزب الجمهوري اليوم بمرشح يلتزم مواقفها. وهذا الحزب عاجز عن طرح مرشح قادر على إرضاء هذه القاعدة وعلى استقطاب القدر الكافي خارجها للفوز بالرئاسة. والمعضلة الفعلية للحزب الجمهوري، في ما يتعدى خسارة الكونغرس بمجلسيه والبيت الأبيض، هي أنه أصبح فعلياً أسير القضية الاجتماعية، وخاصة مسألة الإجهاض. فحاجته الفعلية ليست إلى مرشح توفيقي، بل إلى صيغة فكرية سياسية تخرجه من هذا الأسر.