تتصدى رواية "زئبق" لإميلي نوتومب ترجمتها ناديا صبري وصدرت عن المركز الثقافي العربي لموضوع الحب، لا من حيث بعده الرومانسي البسيط بل بما هو علاقة معقدة وملتبسة بين طرفين متباعدين في السن ومتباينين في النشأة والظروف والرؤية الى الأشياء كما هو الحال بين القبطان العجوز عمير لونكور الذي يبلغ السابعة والسبعين من عمره وبين الفتاة الشابة هازيل التي لا يتجاوز عمرها الثالثة والعشرين. لكن الحديث عن الحب بمعناه المتعارف لا يتم هنا إلا من قبيل المجاز، ذلك أن أحد طرفيه، وهو القبطان، يقع مصعوقاً في غرام الفتاة الفائقة الجمال التي يعثر عليها شبه ميتة إثر وفاة والديها في إحدى مجازر الحرب العالمية الأولى. وإذ يشعر القبطان العجوز بأن فتاة بذلك الجمال لا يمكن أن تبادله الحب، يعمد الى إيهام الآخرين بوفاتها ثم ينقلها الى جزيرة صغيرة قبالة الشاطئ الفرنسي حيث يمكنه عزلها عن البشر جميعاً والابتعاد بفردوسه الأنثوي الأرضي عن كل ما يعكره. ولم يكن ليتم له ذلك لو لم يلجأ الى خديعة أخرى حيث يقنع هازيل بأن وجهها قد تشوه في شكل فظيع وأن أحداً سواه لا يمكنه أن يقع في غرامها. ثم يعمد الى إخفاء كل المرايا من المكان لئلا تكتشف الفتاة حقيقة جمالها، الأمر الذي مكنه من كسب ود هازيل على المستوى العاطفي، ومن رضوخها ولو مكرهة لرغباته الجسدية. حين تدخل الممرضة فرانسواز على خط الأحداث تبدأ العلاقة بالتغير وتدخل الوقائع في منحى دراماتيكي يجعل القارئ عرضة للمفاجآت المستمرة. فالممرضة التي تعالج هازيل من حمى طارئة لا تلبث أن ترتاب إزاء علاقة هذه الأخيرة بالقبطان الذي حرص على التنصت على حوارات المرأتين وعلى منع فرانسواز من إطلاع هازيل على حقيقة جمالها. ولكي تفعل ذلك لم تجد الممرضة بداً من تجميع أكبر كمية من ميازين الحرارة بغية تحويل الزئبق الذي تحتويه الى سطح أملس يمكنه أن يعكس كالمرآة صورة من يحدق فيه ويساعد الفتاة السجينة على استعادة حريتها، وهو ما يمكنه أن يفسر دلالة العنوان الذي تحمله الرواية. تدخل الأحداث بعد ذلك في سياق شبه بوليسي حيث تكتشف فرانسواز أن القبطان سبق له أن أحب فتاة أخرى رائعة الجمال اسمها أديل لنلاحظ التشابه بين اسمي هازيل وأديل والتي تعرف إليها في مجزرة مماثلة وقادها الى الجزيرة نفسها ثم ما لبثت أن انتحرت بعد عشر سنوات من احتجازها في الجزيرة. لا شيء يرجى من الأدب لم يجد القبطان بداً من احتجاز الممرضة التي تحاول أن تجهض المشروع الوحيد الذي يعطي لحياته معنى على الأرض. وإذ يضعها في زنزانة ذات نافذة عالية يصعب الوصول إليها تعمد الى جمع الكتب التي قدمتها إليها هازيل لكي تتسلق بواسطتها الى النافذة. وفي لفتة طريفة تذكر المؤلفة على لسان بطلتها:"الآن إذا تهدمت هذه الكومة فمعنى ذلك أن لا شيء يرجى من الأدب". كما لو أن نوتومب تريد في شكل موارب أن تقول إن شرط الكتابة الأهم هو أن توصل الى الحرية حتى لو تم تحويل الكتب والمجلدات الى ركيزة للفرار. على أن ما يفاجئ فرانسواز هو إصرار هازيل على حبها للقبطان وملازمتها له على رغم اكتشافها حقيقة أمره مع أديل وحقيقة وجهها أيضاً. ذلك أنها اعتبرت أن أحداً لن يمنحها ذلك القدر من الحب مهما بلغ جمالها من الفتنة. أما ما يفاجئ القارئ في نهاية المطاف فهو أن الكاتبة قد وضعت لها خاتمتين اثنتين مختلفتين إحداهما عن الأخرى. الأولى تتلخص بتخلي القبطان عن ثروته لحبيبته هازيل وتعيين فرانسواز منفذة للوصية، ومن ثم رحيل الفتاتين الى نيويورك لتعيشا فيها حياة هانئة. والثانية تتلخص في هروب فرانسواز وهازيل وجلوسهما على الشاطئ الذي انتحرت أديل من فوقه. وإذ يتبعهما القبطان الى حيث هما، يسأل فرانسواز عما إذا كانت هازيل قد عرفت حقيقة جمالها، فتجيبه الممرضة بالإيجاب، فيما حقيقة الأمر أنها لم تخبرها بذلك، وعندها يرمي القبطان نفسه في البحر وفي المكان نفسه الذي انتحرت عنده حبيبته السابقة أديل. أما الفتاتان فتتنعمان معاً بثروة العاشق المنتحر من دون أن تنكشف الحقيقة لهازيل إلا بعد فوات الأوان، أي بعد خمسين سنة على لقائها بفرانسواز. ثمة جنوح واضح الى الإدهاش الفانتازي في رواية إميلي نوتومب. لكنها ليست الفانتازيا المجانية أو السطحية أو المتكلفة، بل تلك التي تكشف عن مفارقات الحياة ومنزلقاتها الصعبة بمقدار ما تكشف عن كوامن المشاعر البشرية وتعقيداتها. فالرواية لا تكف عن إثارة الأسئلة الصعبة المتعلقة بالزمن والحب والظلم والحرية. فشعور القبطان بقبح الشيخوخة هو الذي دفعه الى إقناع هازيل بتشوه وجهها كي تستقيم المعادلة بين الطرفين. غير أن الشعور نفسه هو الذي دفع القبطان الى أن يمنح الفتاة من الحب الغامر ما لا قبل لشاب من عمرها على منحه، ومن هنا نستطيع أن نفهم تمنُّع هازيل الشديد عن الهرب على رغم اكتشافها حقيقة نفسها، كما في السيناريو الأول لخاتمة الرواية. صحيح أنها كانت تشعر بالغثيان إزاء علاقتها الجنسية بالقبطان، لكنها في ما وراء ذلك كانت ترى في الحب الذي يمنحها إياه ما يتجاوز الجسد ليتلمس قرارة الروح الأخيرة. وفي الرواية أخيراً ما يذكّر بأجواء الياباني ياسوناري كاواباتا حيث لا نملك سوى استعادة مناخ روايته"الجميلات النائمات"حين نصغي الى قول القبطان العجوز مخاطباً فرانسواز الممرضة:"أحب رؤية الفتيات الجميلات وهنّ نائمات. ليس هناك مشهد أجمل بالنسبة الى رجل عجوز".