«في مواعيد نشر رواياتها هي أكثر دقة من عقارب الساعة السويسرية»، هكذا تصف الصحافة الفرنسية أميلي نوتومب التي أصدرت في الأسبوع الثالث من شهر آب (أغسطس) عام 1992 روايتها الأولى «نظافة القاتل»، ليُصبح «الموسم الأدبي» في فرنسا موعداً سنوياً ثابتاً لإصدار الجديد من رواياتها. على مدار عقدين من الزمن، نشرت الكاتبة البلجيكية المولودة في اليابان عام 1967 عشرين عملاً روائياً بانتظام، من دون أن تتخلّف سنةً واحدة. ومع بدء «الموسم الأدبي» الخريفي أصدرت أميلي نوتومب روايتها الحادية والعشرين بعنوان «لحية زرقاء»، تزامناً مع احتفائها بمرور عشرين عاماً على صدور أولى رواياتها. شهدت مسيرة هذه الكاتبة، المتحدّرة من عائلة «نوتومب» البلجيكية المعروفة بعملها في مجالي الثقافة والسياسة، صعوداً «صاروخياً». ومنذ إصدار باكورتها الأدبية في الخامسة والعشرين من عمرها، شكلّت أميلي ظاهرة فريدة لا مثيل لها في الأوساط الأدبية الفرنسية والفرنكوفونية. هي لم تجذب اهتمام النقاد والقرّاء بموهبتها الفذة فحسب، بل كان أسلوب حياتها أيضاً سبباً في تميّزها. فعمدت نوتومب منذ بداياتها إلى ارتداء اللون الأسود في معظم إطلالاتها ووضع قبعات كبيرة وغريبة على رأسها والوقوف أمام الكاميرات بنظرات و «بوزات» وتعبيرات وجه غير مألوفة. وكذلك نجحت الروائية الشابة في ربط اسمها بالموسم الأدبي الذي لم تتغيّب عنه منذ عقدين من الزمن، فأدهشت العالم في قدرتها العجيبة على الكتابة المتواصلة بلا كلل أو ملل. وفي تضافر هذه العوامل نتج ما يصحّ تسميته بالظاهرة «النوتومبية». عشرون عاماً هو عمر أميلي نوتومب في الكتابة. وخلال هذه السنوات أصدرت نوتومب أعمالا روائية تفاوتت في مستواها بين المُدهش والعادي، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى كاتب ملتزم بموعد سنوي يُصدر فيه أعماله. وهنا تُذكرنا صاحبة «يوميات سنونوة» بمقولة الكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا: «إن لم يكن باستطاعتي الإبهار بجودة أعمالي، فسوف أُبهر بكميتها»، وهذا ما فعلته أميلي التي أخضعت عملها الأدبي لحساب رقمي دقيق كشفت عنه في حوار لها مع صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية: «أنا أكتب بمعدّل 3.7 روايات في السنة، أُصدر منها واحدة فقط. ففي الوقت الذي أصدر فيه روايتي الحادية والعشرين أجدني أكتب المخطوطة الرقم 75». وفي ظلّ انبهار الجميع أمام قدرتها السحرية على الكتابة والنشر المتواصلين، تقول أميلي نوتومب: «يجد الكاتب صعوبة قصوى في الشروع بكتاب جديد بُعيد الانتهاء من عمل سابق، أما أنا فوجدت حلاً مثالياً للمشكلة. ألا أتوقف أصلاً عن الكتابة». حازت أميلي نوتومب عن روايتها الأولى أكثر من جائزة أهمها «آلان فورنييه»، إلاّ أنها بلغت الذروة في رائعتها «ذهول ورهبة» التي حازت عنها الجائزة الكبرى من «الأكاديمية الفرنسية» عام 1999، ومعها أصبحت نوتومب الكاتبة الأكثر مبيعاً. ولا تخفي صاحبة «بيوغرافيا الجوع» حقيقة أنها تعيش تحت نظام صارم يُلزمها الاستيقاظ يومياً عند الرابعة فجراً والتفرّغ كليّاً للكتابة. وانتظامها في عملها امتدّ أيضاً على حياتها العملية، فهي بدأت تعاونها مع دار «ألبان ميشيل» للنشر، بعدما رفضت «غاليمار» نشر مخطوطة «نظافة القاتل»، وما زالت تعمل إلى اليوم مع الدار نفسها التي صدرت عنها أخيراً «لحية زرقاء». من قصة للأطفال إلى رواية للراشدين في روايتها الصادرة حديثاً، تستعيد أميلي نوتومب (الكاتبة المقروءة من المراهقين كما من الكهول) شخصية من شخصيات القصص التي سكنت مخيلتها منذ الصغر. «اللحية الزرقاء» من أبرز قصص الأطفال التي ظهرت صيغتها الأشهر مع شارل بيرّو في عام 1697. وهي تحكي قصّة رجل فاحش الثراء إنما قبيح ومخيف وله لحية زرقاء غدت هي لقبه واسمه. تزوج «اللحية الزرقاء» أكثر من مرّة إلاّ أنّ زوجاته اختفين في ظروف غامضة، ما أثار الذعر في قلوب كلّ من تقدّم لخطبتهن في ما بعد، باستثناء واحدة من جاراته التي وافقت على الزواج منه بعدما «غرّها» وأهلها بجاهه وماله. وبعد شهر من زواجهما يُقرّر «اللحية الزرقاء» السفر وإعطاء زوجته مفاتيح غرف القصر كلّه، محذرّاً إيّاها من الدخول إلى غرفة واحدة فقط تحت أي ظرف. لكن فضولها يدفعها للدخول إلى الغرفة الممنوعة حيث تذهل لرؤية جثث زوجاته السابقات معلقات على الحائط. ومن فرط الهلع والخوف يقع المفتاح من يدها فتصل إليه بقعة دم لم تتمكن من إزالتها لقدرة سحرية في المفتاح نفسه. ولمّا يكتشف «الزوج- الوحش» فعلة زوجته يستعدّ لشنقها، إلاّ أنّ وصول أخويها في الوقت اللازم يُخلّصها من يدي المجرم القبيح الذي يموت بطعنة رمح في قلبه لترث أمواله وتساعد عائلتها وتتزوج برجل طيب وحنون. أميلي نوتومب تعود في القرن الحادي والعشرين إلى قصّة من الكلاسيكيات الراسخة في أذهان الصغار لتستلهم منها حبكة روايتها الجديدة التي تحمل العنوان نفسه، مع الاستغناء عن «أل» التعريف «لحية زرقاء». تفاصيل الرواية تختلف عن القصة. أبطالها معاصرون وأحداثها آنية. فالبطلة هي «ساتورين»، معلمة مساعدة في مدرسة «اللوفر»، تبحث عن سكن في مدينة باريس. وبالصدفة تقع على إعلان عن شقة راقية تعود لمصوّر فوتوغرافي عازب في الجادة السابعة في باريس. فيقع اختيار المالك على ساتورين التي يُعطيها مفاتيح الشقة كلّها، ما عدا غرفة واحدة يُسميها «الغرفة السوداء». غموض مخيف يلفّ هذه الغرفة وصاحبها لنكتشف من ثم أنّ السيّدات الثماني اللواتي سكنّ المكان قبلها اختفين في ظروف غامضة. تتجلّى مقدرة نوتومب على إقحام عنصري التشويق وحبس الأنفاس بحرفية في أسلوب كتابتها. ففي هذه الرواية الصغيرة حجماً (170 صفحة)، تقدّم نوتومب عملاً يقوم على لعبة الأضداد كالإغواء والتنافر المتبادل، والترميز والتصريح، والسرد والحوار... ومع أنّ الرواية مقتبسة من إحدى أشهر قصص الأطفال، إلاّ أنّ نوتومب أعادت قولبتها على طريقتها الخاصة، فجعلتها متناغمة وأعمالها السابقة من حيث الثيمة الأساسية التي طبعت معظم أعمالها: «الصراع». واعتمدت في شكل أساسي على الحوارات التي تبرع دائماً في تقديمها. ويبرز ذلك جلياً في هذا المقطع من رواية «لحية زرقاء».