منذ أعلن الرئيس الاميركي جورج بوش في السادس عشر من تموز يوليو الماضي عن دعوته الى عقد مؤتمر أو لقاء دولي من أجل تسوية الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي في خريف هذا العام، والتكهنات جارية على قدم وساق حول أسباب صحوة الإدارة الاميركية. في ذلك اليوم من تموز، وبعد ان توجه الرئيس جورج بوش الى الرأي العام الأميركي بتحية المساء، بدا وكأنه بصدد القيام بمراجعة في السياسة وكأن صحوة قد هبطت على ادارته في تعاملها مع أزمات المنطقة. فقد قال الرئيس:"خلال الأسابيع الأخيرة تركز الجدل في بلدنا حقيقة على الوضع في العراق"، وأضاف:"غير ان العراق ليس الموضوع الوحيد البالغ الأهمية في الشرق الأوسط، فقبل اكثر من خمس سنوات، كنت أول رئيس اميركي يدعو الى قيام دولة فلسطينية"، وتابع ليصل الى أمرين:"الاول هو الدعوة الى عقد لقاء دولي يجمع ممثلين عن البلدان، التي تدعم مبدأ الدولتين، والثاني دعوة لجنة الاتصال المختصة، التي تترأسها النروج وتضم في عضويتها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعدد من الدول العربية، لتحمل مسؤولياتها وتقديم الدعم الحاسم، على حد تعبيره، لقادة فلسطينيين ذوي مسؤولية يعملون من أجل السلام". هل تغير شيء على الوضع منذ دعوة الرئيس جورج بوش الى عقد لقاء أو مؤتمر في الخريف لتسوية الصراع على مساره الفلسطيني - الاسرائيلي، بالتأكيد وقع تغيير. فبعد توافق الطرفين الأميركي والاسرائيلي على التعامل مع السلطة الفلسطينية، كما لو كانت كياناً إرهابياً أو كياناً يدعم الارهاب على امتداد سبع سنوات من عمر الادارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد، فقد عادا وتوافقا على أهمية تقديم الدعم لقادة فلسطينيين ذوي مسؤولية ويعملون من أجل السلام. تراجعت الى الخلف تلك الأفكار السوداء، التي تنكرت للمعاناة الشديدة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وأنكرت على امتداد سنوات وجود شريك فلسطيني مسؤول يبدي الاستعداد للعمل من أجل السلام، ذلك تطور في سياسة ادارة وصفتها دراسة هارفرد الشهيرة، التي صدرت في آذار مارس 2006 حول الأوضاع في المنطقة بأنها أكثر الإدارات الأميركية، التي تفضل المصلحة الاسرائيلية على المصلحة الأميركية، وهو تطور كذلك في سياسة ادارة أميركية كانت بحجة عدم وجود شريك فلسطيني قد رفضت في صيف العام 2005 مبادرة دعا لها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القاهرة لعقد مؤتمر دولي في خريف ذلك العالم، ايضاً لدفع جهود التسوية وحل الدولتين على مسار الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الى الأمام. كان ذلك تطوراً على مستويين، فقد تراجعت الإدارة عن سياسة غياب الشريك الفلسطيني، وهي سياسة أطلقت العنان لحكومة اسرائيل لتواصل ممارساتها الاحتلالية العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ونشاطاتها الاستيطانية بمصادرة المزيد من الاراضي الفلسطينية لفائدة المستوطنين وببناء جدار الفصل العنصري، الذي تستهدف اسرائيل من خلاله رسم صورة التسوية الاستسلامية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وكادت تتكرر بخطة الانطواء والتجميع في الضفة الغربية، مثلما تراجعت هذه الإدارة، حتى لو كان ذلك تراجعاً جزئياً، عن سياسة الانفراد والتفرد بملف الصراع ورفع الأسوار العالية أمام المجتمع الدولي وفرص مشاركته في البحث عن حلول لهذا الملف. ولكن، هل يعكس هذا التطور في موقف الإدارة الاميركية صحوة حقيقية ومراجعة فعلية لسياستها ومواقفها من الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي والصراع العربي - الاسرائيلي، ام ان ذلك هو الغطاء لسياسة تهيئ المسرح لإعادة بناء الأوضاع في المنطقة لصالح مشروع الهيمنة على مقدرات شعوبها تعثر في أكثر من محطة، ولا زال يتعثر في أكثر من ساحة ومكان. ليس من الحكمة في شيء تبسيط الأمور على هذا الصعيد، بعد كل هذه المعاناة، التي عاشتها المنطقة وعاشها الشعب الفلسطيني بفعل السياسة التي سارت عليها الإدارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد على امتداد السنوات الماضية، خصوصاً وان هذه الإدارة لا تبدي الحد الأدنى من الاستعداد للتخلي عن نزعة الهيمنة الامبراطورية على دول المنطقة وشعوبها أو للتخلي عن شراكتها الاستراتيجية مع دولة اسرائيل لحساب التوازن في علاقاتها مع دول المنطقة، وهي علاقات ينعقد شرط التوازن فيها بموقف يدعو بوضوح الى ممارسة الضغط على دولة اسرائيل للبدء بعملية سياسية تفضي الى تسوية الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي والعربي - الاسرائيلي على قاعدة واضحة في إطار مؤتمر دولي ينعقد على اساس قدرات الشرعية الدولية ذات الصلة، وتوفر الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة ودولها بما فيها دولة فلسطين، التي تمارس سيادتها الكاملة غير المنقوصة على الاراضي الفلسطينيةالمحتلة منذ حزيران يونيو 1967 بما فيها القدس العربية وتوفير متطلبات تسوية عادلة لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للقرار الأممي الرقم 194. من دون شك وقع تطور في سياسة الادارة الاميركية، لكنه تطور لم يبدد المخاوف والأخطار، التي تستشعرها دول المنطقة وشعوبها استناداً الى خبرتها الطويلة مع سياسة هذه الإدارة ونزعتها الى الهيمنة من ناحية وانحيازها السافر للسياسة العدوانية التوسعية لدولة اسرائيل من ناحية أخرى، وأبعد من ذلك، فإن أسئلة كثيرة تطرح نفسها ولا تجد جواباً يطمئن دول المنطقة وشعوبها بشأن دوافع هذا التطور، الذي طرأ على سياسة هذه الإدارة. اسئلة كثيرة تزدحم وتتزاحم في عقل المواطن العادي ووعيه فضلاً عن العاملين في الشأن السياسي العام، ولا تجد جواباً شافياً يفسر هذا الانشغال المتأخر بملف الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، وهو انشغال متأخر يأتي في خريف عمر هذه الإدارة. وتمتد هذه الأسئلة على مساحة واسعة من الشك وعدم اليقين حول الدوافع التي تحرك سياسة الادارة أولاً وحول أهدافها ثانياً وحوا مقارباتها ودورها في جسر فجوة المواقف ثالثاً، وهكذا. فالدوافع التي تحرك سياسة هذه الإدارة ليست واضحة حتى الآن، ومن الصعب ان تنسب الى مراجعة في الموقف السياسي أكد على ضرورتها وأهميتها، ذلك التقرير الشهير، الذي أعدته مجموعة دراسة العراق، والمعروف بتقرير بيكر - هاملتون، حيث ان السلوك السياسي العام لهذه الادارة ومقارباتها لأزمات المنطقة يبتعد الى حد كبير عن تلك التوصيات التي دونتها تلك المجموعة في تقريرها. جاء ذلك واضحاً في خطاب الدعوة الى عقد لقاء أو مؤتمر الخريف، حينما استثنى الرئيس الاميركي دولاً عربية واقليمية من المشاركة في المؤتمر باعتباره يبحث حصراً في تسوية للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، الأمر الذي ألقى ظلالاً من الشكوك حول دوافع الادار وأهدافها معاً. لم يكن هذا هو سلوك الادارة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، عندما دعا الى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. فقد غطت الديبلوماسية الأميركية في حينه على أيدي تلك الادارة ووزير خارجيتها آنذاك جيمس بيكر جميع الدول المنخرطة والمعنية في الصراع، خلافاً لسياسة جورج بوش الابن وادارته، التي يقودها فريق من المحافظين الجدد، والذين لم يرفعوا مشروعهم لبناء شرق أوسط كبير أو جديد من جدول أعمالهم وأولوياتهم، على رغم كل الاخفاقات التي مني بها هذا المشروع منذ الغزو الاميركي للعراق عام 2003. يضاف الى ذلك ما يتردد في أروقة السياسة على لسان عدد غير قليل من المسؤولين الاميركيين والاسرائيليين حول المقاربات لاطلاق عملية سياسية تضع الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي على طريق التسوية. فالفجوة لا زالت واسعة جداً بين الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي، ولا يلوح في الأفق احتمال التوصل الى وثيقة مشتركة تلبي حتى الحد الأدنى من المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، أو تؤسس لاطلاق عملية سياسية جادة بين الجانبين، ذلك واضح من مجريات اللقاءات الثمانية، التي عقدها الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ومن اللقاءات الثلاثة التي عقدها فريق المفاوضات الفلسطيني برئاسة أبو علاء قريع مع فريق المفاوضات الاسرائيلي برئاسة وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، ومن جولات الحوار، التيت قوم بها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في المنطقة، حيث يحتل ملف الأمن أولوية على غيره من الملفات وتحديداً السياسية. أمن اسرائيل أولاً وأخيراً هو لسان حال جميع المسؤولين في اسرائيل في الحكومة وفي المعارضة، والأمن هنا لا يتعلق فقط باسرائيل ومواطنيها في حدود العام 1948 أو العام 1967، بل يمتد على مساحة أوسع ليشمل الاستيطان والمستوطنين في الضفة الغربية بما فيها القدس. ليس هذا فحسب، بل ان تنفيذ أي اتفاقات سابقة أو لاحقة، بما فيها خريطة الطريق الدولية ينعقد شرطه حسب الموقف الاسرائيلي على الجانب الأمني بمعزل عن أية تبادلية في تنفيذ ما اتفق او ما يتم الاتفاق عليه، وهذا يعني بكل وضوح ان اسرائيل تسعى بكل جهودها لتطويق كل عملية سياسية بسلسلة من الحواجز الأمنية كسياسة متفق عليها بين أحزاب الحكومة والمعارضة، وهي سياسة مارستها بكفاءة تحت سمع وبصر الادارة الأميركية وبدعم واسع منها على امتداد السنوات السبع الماضية من عمر هذه الادارة. وفي ظل هذه السياسة واصلت حكومات اسرائيل خلق وقائع جديدة على الأرض من خلال التوسع في مصادرة الأراضي والبناء الاستيطاني، على رغم أن خريطة الطريق الدولية تدعوها بشكل صريح الى تفكيك جميع البؤر الاستيطانية التي أقامها المستوطنون منذ آذار مارس 2001 والى وقف البناء في المستوطنات، حتى لأغراض النمو الطبيعي ومن خلال مواصلة العمل ببناء جدار الفصل العنصري، على رغم أن فتوى محكمة العدل الدولية وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الجدار يدعوان اسرائيل ليس فقط الى وقف عمليات البناء بل والى هدم ما تم بناؤه والى جبر الضرر، الذي ترتب على البناء باعتباره مخالفة صريحة للقانون الدولي. وتدرك الادارة الاميركية ان الهدف من التوسع في مصادرة الاراضي الفلسطينية والبناء في المستوطنات ومن مواصلة العمل ببناء جدار الفصل العنصري هو استباق نتائج المفاوضات حولا لوضع الدائم ورسم صورة التسوية بدويلة معازل لا تملك مقومات الحياة فضلاً عن متطلبات السيادة. ومع ذلك فهي لا تحرك ساكناً، حتى بعد الدعوة التي اطلقها الرئيس جورج بوش لعقد مؤتمر لتسوية الصراع في هذا الخريف. الطريف، الغريب في هذا السياق، ان حكومة اسرائيل، التي كانت قد تعهدت في العام 2005 لهذه الادارة الاميركية بوقف مشروعها الاستيطاني الخطير في المنطقة المسماة E1 بين القدس ومستوطنة معاليه ادوميم عادت هذه الأيام لإحياء مشروعها الاستيطاني في المنطقة بمصادرة مساحات واسعة من اراضي الفلسطينيين في أبوديس والعيزرية وعرب السواحرة والأراضي المحاذية لمقام النبي موسى بهدف شق شارع يخصص لحركة الفلسطينيين فقط للربط بين محافظتي الخليل وبيت لحم ومنطقة أريحا والأغوار وبما يمكنها من إغلاق المنطقة المسماة E1 لتشرع بعد ذلك ببناء حيين استيطانيين يستوعبان نحو 3500 وحدة سكنية استيطانية جديدة. الأمر العسكري الأول بمصادرة نحو 1200 دونم من أراضي المنطقة وقعه القائد العسكري لمنطقة المركز غادي شمني في 24 أيلول سبتمبر الماضي، وعندما طلبت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ايضاحات من حكومة اسرائيل بشأن مصادرة الأراضي وفقاً لذلك الأمر العسكري ردت حكومة اسرائيل بمصادرة 387 دونما اضافياً من الأراضي الفلسطينية في المنطقة نفسها، فما كان بوسع وزيرة الخارجية رايس إلا أن تبلع لعابها وتصمت. إذاً، محاصرة العملية السياسية، أية عملية سياسية، بسلسلة من الحواجز السياسية الأمنية، كما هو حال الفلسطينيين على الحواجز العسكرية الاسرائيلية في طول الضفة الغربية وعرضها، ومواصلة النشاطات الاستيطانية والبناء في المستوطنات وأعمال بناء الجدار، كلها عمليات تجري في ظل دعوة الرئيس الاميركي جورج بوش لعقد لقاء أو مؤتمر لتسوية الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. ذلك يؤشر بوضوح على أمر خطير يلقي مزيداً من الظلال على دوافع وأهداف الادارة الاميركية وعلى صدقيتها في مقاربة سياسية تسهم في جسر الفجوة الواسعة بين مواقف الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي. لا شك ان الادارة الاميركية تحركها في دعوتها لعقد مؤتمر الخريف دوافع داخلية على أبواب الانتخابات الرئاسية بعد عام ودوافع خارجية تتصل بإعداد المسرح لعمل عدواني خطير في المنطقة بهدف إعادة ترتيب أوضاعها بما يخدم مصالح الولاياتالمتحدة وحليفتها الاستراتيجية في المنطقة اسرائيل، وهي لهذا تطلق الدعوة لمثل هذا المؤتمر كترضية لما تسميه بمعسكر الاعتدال الفلسطيني والعربي. ديبلوماسية اللحظات الأخيرة في خريف الادارة الاميركية تخفي أجندة اميركية واسرائيلية، انها تناسب مصالح الولاياتالمتحدة ودولة اسرائيل ولكنها لا تناسب مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح الشعوب والدول العربية، وهذا ما يجب أن تفهمه وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في زيارتها القادمة للمنطقة. * عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.