لا يأبهون لما يدور في مباني جيرانهم، ولم يعنهم الاحتفال باليوبيل الفضي لجامعة الملك سعود، ولا يكترثون للبلايين التي تديرها الهيئة الحكومية للاستثمار. يقبعون في"دار الرعاية الاجتماعية للمسنين"في الرياض. إنهم جيران هذه المؤسسات العريقة صدفة، إذ انهم نزلاء مبنى، شرط الدخول إليه أن يكونوا تعدوا الستين من العمر. ودخول"دارهم"يزرع حالاً من الرعب تتسلل إلى نفس الزائر، لا سيما عندما يباغته بعض المسنين الجائلين في الباحة الفاصلة بين المدخل والمبنى للسلام عليه. فالشكل الهادئ والمقترن بملامح توحي بتخلف عقلي كفيلة بزعزعة تماسك أي"متطفل"على مجتمع الدار، ولكن لا يلبث أن يكتشف أنهم ينطوون على كم هائل من الوداعة والظرف. يتحركون بهدوء في الباحة المُضللة. ويركنون إلى الزوايا في شكل منفرد على رغم أنهم باتوا يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، إذ يخيل لمن يمشي وسط هذا الهدوء أنه قد دخل للتو مكتبة عامة. بعض طقوسهم توحي بأنهم متخلفون عقلياً، غير أن الواقع وبحسب مصادر رسمية، ان أكثرهم يعانون أمراض:"كبر السن"، النسيان، ضعف الذاكرة، وتواضع أداء أجهزة الجسم، إضافة إلى نسبة عالية ممن يعانون حالات اكتئاب، أو فصام في الشخصية. "عشر سنوات"، إجابة مقتضبة لنزيل يجلس وحيداً في آخر الحديقة، على كرسي خشب، رداً على سؤال عن فترة إقامته في الدار. عدم تجاوب العجوز وامتعاضه من محاولة قطع وحدته، انعكسا على"زميل"له أراد أن يخلّصه من"تطفل الدخيل"وسارع إلى القول:"نأكل، وننام، ويعطوننا مشروبات غازية، ويغسلون ثيابنا"، كمن يسعى إلى حسم الموقف بكلمات بسيطة ومقتضبة. براءة طفولية تميّز تجاعيد وجوه رسمتها الأيام على ملامح مسنّين وضعهم عمرهم أو حالاتهم الذهنية أو وضعهم العائلي، في"عزلة"أعادتهم إلى سنين الطفولة، على الأقل في طريقة تفكيرهم. ويتهم العجوز الأخير أهله بأنهم"ادعوا أنه مجنون"، وتبعاً لذلك أدخلوه مستشفى الأمراض العقلية في الطائف. وينفي عن نفسه صفة الجنون، مؤكداً ظلم أهله له، ثم يروي رحلته من مستشفى الأمراض العقلية، إلى دار الرعاية الاجتماعية في وادي الدواسر 600 كيلومتر جنوبالرياض، وصولاً لإقامته في دار المسنين في الرياض، وهي فترات تشير إلى"أكوام"من السنين يحملها على ظهره، وتشي بها تجاعيد وجهه. وينضم نزيل آخر إلى الجلسة، ومن دون مقدمات تنطلق شكواه. يشتكي عمه الذي أدخله إلى دار المسنين، التي يقتصر الأكل فيها على الرز والدجاج، على حد قوله. ويطالب بوجود"هامبرغر وكباب"لكسر الملل الذي تحدثه رتابة الوجبات. ويستمر في الشكوى من وجوده داخل الدار، معتبراً أن في إمكانه الاستقلال بنفسه، وممارسة أي نشاط يقتات منه، حتى لو اضطر إلى"أكل التراب"بحسب قوله. والمثير أنه لا يتوقف عن التأكيد أن مطالبه"واقعية"، لافتاً إلى أنه"فنان مبدع". وحول قصة الفن يفتح هذا النزيل باباً لا يخطر على بال، إذ يشير إلى أنه يحمل لقب"فنان العرب"، وذلك بعد مشوار طويل من الأغاني والحفلات التي أقامها في الدار، لافتاً إلى أن ألبوم "2008"سيصدر قريباً، وعند سؤاله عن الفنان محمد عبده، لا يتردد في القول إن"المنافسة بينهما ساخنة". ول"فنان الدار"الكثير من القصص عن المعجبين الذين يُخجلونه عندما يهتفون باسمه، سواء في القاهرة أو دمشق،"وتحديداً في فنادق السبعة نجوم". ويمضي النزيل نفسه"رحلة الهذيان"، ويقول:"الفن لا يؤكل عيشاً... أمضيت عشرين سنة في هذه المهنة ولم أستفد شيئاً". ويضيف"فنان الدار"أنه"سيوقع عقداً مع أكبر شركة فنية في العالم العربي". ولا يلبث أن يبدي استياءه من"إزعاج الفنانات هيفاء وهبي، وإليسا، وأحلام، اللواتي لا يتوقفن عن منافسته"! وإذا كان هذا النزيل فجّر مفاجآت من العيار الثقيل، فإن"الغرابة"تمثل القاسم المشترك بين جميع التصرفات، وعلى المستمع أن يرفع شعار"لا تعليق"، لأن ما يقوله النزلاء من"المسلّمات"التي لا تقبل الجدل. وبعيداً من عوالم النزلاء الداخلية، تقدم دور الرعاية للمسنين والمسنّات أيضاً أنواعاً مختلفة من العناية، تبدأ بالرعاية الاجتماعية، من خلال دراسة الأحوال المحيطة بالحالة، والظروف التي مرت بها قبل دخول الدار، والعمل على استمرار علاقة النزيل بأسرته، ومساعدته للتكيف مع البرامج المرسومة، وربطه بالمجتمع الخارجي من طريق النزهات في البيئة المحلية". وتوفر الدار الرعاية الطبية للمسنين، من المعالجة الصحية وصولاً إلى الرعاية النفسية، وغيرها من البرامج الثقافية، والمهنية، والترفيهية، التي تتطلبها حالات النزلاء.