الصرخة التي أطلقها المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء قبل يومين، من انه يخشى أن يؤدي الإقبال على الوقود الحيوي إلى مزيد من المجاعة في العالم، تدعو إلى كثير من التأمل القانوني الدولي. ذلك أن تصريحات الخبير الأممي جين زيكلير، جاءت مدوية في اتهاماتها للغرب في أنه قد يتسبب في حصول مجاعة عالمية مستقبلية، بسبب إقبال الدول الغربية غير المدروس على تحويل المحاصيل الزراعية كالذرة والسكر إلى وقود حيوي كبديل للنفط، بسبب ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه من الناحية القانونية الدولية في كلمة زيكلير، والتي أطلقها في مقر منظمة الأممالمتحدة بنيويورك، هو قوله:"إن تحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى نتاج محاصيل يكون مصيرها إما الحرق أو إنتاج الوقود يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية". وعلى رغم أن مفهوم"جرائم ضد الإنسانية"يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن أول تدوين لهذا المصطلح جاء في محكمة نورمبرغ عام 1945 في أعقاب محارق النازيين ضد اليهود. وفي عام 1946، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتعريف الوارد في ميثاق نورمبرغ لهذه الجريمة كونه جزءاً من القانون الدولي. بعد ذلك أدرج هذا التعريف في النظامين الأساسيين للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا. واليوم حدد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 11 نوعاً من الأفعال التي يمكن أن ترقى إلى"جرائم ضد الإنسانية"، شملت القتل العمد، والإبادة، ومنها ما يشمل حرمان أشخاص من الطعام أو الدواء بنية إهلاك جزء منهم، والاستعباد، والترحيل أو النقل القسري للسكان، والسجن أو غير ذلك من ضروب الحرمان الصارم من الحرية البدنية على نحو ينتهك القواعد الأساسية للقانون الدولي، والتعذيب الذي يتسبب في إنزال آلام أو معاناة بدنية أو عقلية ضد شخص محتجز، والاغتصاب والاستعباد الجنسي والإرغام على ممارسة الدعارة والحمل القسري والتعقيم القسري أو أي شكل من أشكال العنف الجنسي، وممارسة الاضطهاد الديني ضد أية مجموعة أو جماعة محددة لأسباب سياسية أو عنصرية أو قومية أو عرقية، وحالات الاختفاء القسري، وجريمة الفصل العنصري، والأعمال غير الإنسانية الأخرى ذات الطبيعة المماثلة. المهم من هذه الأنواع في ما يتعلق بصيحة السيد زيكلير، هو النوع الثاني وهو جريمة الإبادة التي تشمل أموراً عدة منها حرمان مجموعة من الناس من الطعام أو الدواء. خصوصاً أن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية نص على أن اختصاصها يشمل النظر في جرائم الإبادة الناشئة عن إخضاع أية جماعة لأحوال معيشية مزرية. ولعل ما أراد خبير الغذاء العالمي الإشارة إليه، هو أن ما تتسابق إليه الدول الغربية من الاعتماد المتزايد على الوقود الحيوي المستخرج من النباتات قد تسبب في ارتفاع حاد في أسعار الغذاء عالمياً، يجعل من الصعب على فقراء العالم التمكن من الحصول على أغذيتهم، وقد يؤدي في نهاية الأمر إلى تجويعهم وهلاكهم. ففي الولاياتالمتحدة، أشار خبراء إلى أن فواتير المواد الغذائية شهدت ارتفاعاً حاداً هذا العام بسبب بيع الذرة بالجملة لاستخدامها في إنتاج وقود الإيثانول. وفي البرازيل أشارت تقارير إلى أن استخدام الذرة في إنتاج الوقود البيولوجي في الولاياتالمتحدة كان سبباً في ارتفاع الخبز المكسيكي الذي يعد عنصراً رئيسياً في الوجبات المكسيكية المصنوعة من الذرة. ومعلوم أن الوقود الحيوي هو عبارة عن طاقة مستمدة من النباتات، منها الذرة واللفت وقصب السكر وزيت النخيل وغير ذلك. لم تكن صيحة الخبير الأممي الأولى ولن تكون الأخيرة. فقبل أسبوع حذّر صندوق النقد الدولي من أن تزايد الاعتماد على الحبوب كمصدر للحصول على الوقود في العالم، قد تكون له تداعيات خطرة على فقراء العالم. وفي الوقت ذاته أصدرت كل من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ومنظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة FAO، تقريراً مشتركاً يدعو لوقف الدعم للوقود الحيوي، ويشير إلى أن الاتجاه العالمي المتسارع للديزل الحيوي والإيثانول، أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء في العالم وإلى إلحاق دمار بالبيئة. بل إن التقرير أكد أن زعم الدول الغربية بأن الوقود الحيوي أقل إضراراً بالبيئة غير صحيح. وذلك أن الآثار البيئية للإيثانول والديزل الحيوي - بحسب التقرير - تتجاوز في مجملها الآثار الناجمة عن البنزين والديزل عندما يوضع في الاعتبار استخدام الأسمدة الحمضية والخسائر في مجال التنوع الحيوي والسموم الناتجة من استخدام المبيدات. كما حذّر علماء البيئة من أن ارتفاع الطلب على الوقود الحيوي، يتطلب مساحة ضخمة من الأرض وبالذات غابات الأمطار التي تستقطع لإنتاج النباتات التي يستخرج منها الوقود الحيوي، وهو أمر يخل بالتوازن البيئي. تشهد على ذلك حالات إزالة الغابات في البرازيل وإندونيسيا وماليزيا لاستبدالها بزراعة محاصيل الطاقة. ويبدو واضحاً أن سبب اللجوء إلى الوقود الحيوي بديلاً للنفط ليس لأسباب بيئية - كما تزعم المؤسسات الغربية - بقدر ما هو لأسباب اقتصادية، إذ لا تزال أسعار النفط تشهد تصاعداً يوماً بعد يوم، بسبب المخاوف السياسية العالمية التي كانت الولاياتالمتحدة سبباً في إيجادها. وبمناسبة الحديث عن أسعار النفط، فإن ما حذّر منه خبراء الاقتصاد الغربيون قبل سنوات، من أن تخطي أسعار النفط لحاجز ال50 دولاراً سيتسبب في تضخم اقتصادي عالمي، تكون من آثاره كارثة اقتصادية أول من تدفع ثمنها الدول المنتجة للنفط، جاءت مخالفة للواقع تماماً! وغني عن القول اليوم أن أول المستفيدين من ارتفاع أسعار النفط العالمية التي جاوزت ال50 دولاراً منذ أعوام هي الدول الصناعية الغربية، إذ لا تزال اقتصادياتها تتنامى على رغم تصاعد أسعار النفط، التي يتوقع لها أن تكسر حاجز المئة دولار قبل نهاية العام. ومع ذلك فإنه ليس ثمة ما يمنع الدول المستوردة للنفط من البحث عن بديل آخر يكون أكثر ملاءمة للبيئة. في هذا الخصوص، يمكن الحصول على الوقود الحيوي من خلال التحليل الصناعي للمزروعات والفضلات وبقايا الحيوانات وتحلل النفايات ومخلفات الأغذية، وهو الأمر الذي دعا السيد زيكلير إلى الاستفادة منه علمياً بتطوير الأبحاث حوله، وحظر ممارسة حرق المحاصيل الزراعية لمدة خمس سنوات. فهل تنتظر الدول الغربية هذه المدة القصيرة؟ أم تراها تعامل هذه الجريمة كما عاملت غيرها من الجرائم الأكبر والأكثر خطورة على الإنسانية من قبل؟ * حقوقي دولي