يمكن من لم ير منجزات النحات المصري الرائد محمود مختار 1891-1934 أن يعتبر كتاب الناقد صبحي الشاروني عنه متحفاً وسيرة ذاتية ابداعية لتشكيلي سابق الزمن وأعاد خلال رحلة قصيرة الاعتبار الى فن النحت المصري باستخدام حجر الغرانيت بعد أن توارى لنحو 2300 سنة. ووفق الشاروني حين صدر كتابه"ذاكرة الأمة... محمود مختار ومتحفه"بكلمة لعميد الادب العربي طه حسين شرح فيها كيف كان فن النحت ودراسته في مطلع عشرينات القرن الماضي من الامور الغريبة"غرابة اللغة السريانية"، لكن مختار استطاع أن يقرب هذا الفن الى الناس ويدفع السلطات الى الاعتراف به. ويقع الكتاب في 122 صفحة من القطع الكبير ويصدر اليوم في القاهرة عن الدار المصرية - اللبنانية. ويضم الكتاب - المتحف قسماً خاصاً بصور ملونة لمعظم تماثيل مختار وهي مصنوعة من خامات مختلفة ومعظمها لنساء لهن علاقة ما بنهر النيل ومنها:"ايزيس"و"عروس النيل"و"الخماسين"و"كاتمة الاسرار"و"حاملة الجرة"و"الفلاحة"و"عند لقاء رجل"و"بنت الشلال"و"على ضفاف النيل"و"الى النهر"و"العودة من النهر"و"فلاحة ترفع الماء"و"حارس الحقول". يبدأ القسم الأول في الكتاب بمدخل عنوانه"عصر مختار"عن السياق الثقافي الذي أتاح لعدد كبير من المصريين أن يضعوا بذور نهضة شاملة. ففي الادب كان عباس محمود العقاد وطه حسين، وفي الموسيقى سيد درويش، وفي الفنون التشكيلية محمد حسن وراغب عياد ويوسف كامل، وفي الشعر أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وخليل مطران. يقول الشاروني ان مختار مثّل عصره بتطلعه وإشراقه:"ولاح في تماثيله الامل والإصرار والكبرياء. وتعتبر حياة مختار نموذجاً في الكفاح له دلالات عميقة، فهو أحد القلائل الذين حققوا لبلده ذاتية قومية وردوا اليه الثقة بنفسه، فكان أثره في مجال الفنون كأثر الشيخ محمد عبده في مجال الاصلاح الاجتماعي وأثر سعد زغلول في مجال الزعامة السياسية، خصوصاً أن المجتمع المصري آنذاك، كان معادياً لصناعة التماثيل ويراها امتداداً لصناعة الاصنام". ويشير الشاروني الى أن مختار حظي باحترام الشعب المصري، اذ كان"الفنان الوحيد"الذي استقبلته تظاهرات الترحيب والاحتفاء في مدينة الاسكندرية الساحلية عند عودته الى مصر ليقيم تمثال"نهضة مصر"تخليداً للثورة الشعبية بعدما كانت تماثيل الميادين لا تصوّر سوى الملوك والقادة. وتبرع البسطاء المصريون لتغطية نفقات هذا التمثال الذي جسّد أشواقهم الى النهوض متلخصاً في شعار من أربع كلمات:"الاستقلال والحرية والعدالة والدستور"بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى. ويرتبط مختار الذي لم تمتد حياته أكثر من 43 سنة، في الذاكرة المصرية بأعمال شهيرة منها تمثال"نهضة مصر"الموجود على بعد نحو 200 متر من جامعة القاهرة وتمثالان لزغلول في القاهرةوالاسكندرية. وسجل الكتاب أن تماثيل مختار التي أقامها للزعيمين المصريين مصطفى كامل ومحمد فريد كانت تحمل في التظاهرات ضد الاحتلال البريطاني لمصر. يذكر أن مختار كان أول طالب يتقدم الى مدرسة الفنون الجميلة التي تأسست عام 1908 في القاهرة. وبسبب تفوقه سافر الى باريس عام 1911 والتحق بمدرسة الفنون الجميلة مع أكثر من مئة طالب فرنسي وأجنبي وجاء"ترتيبه الاول". وقبل سفره كان مختار يتطلع الى النموذجين الاغريقي والروماني في فن النحت، وفي فرنسا انتبه الى القيم الفنية في تراث النحت في الحضارة الفرعونية الغنية بنماذج وتماثيل من عصور مختلفة حيث عومل هناك كمصري ينتمي الى الملك رمسيس الثاني.