على رغم مخاوف كثيرة يبديها المثقفون في مصر من الصعود السياسي لتيارات إسلامية، وإبداء مواقف متشددة تبدو خطيرة على حرية الإبداع، فإن تمثال «نهضة مصر» للنحات الشهير محمود مختار، والقائم على مسافة خطوات من جامعة القاهرة، نجا من «ذهنية التحريم» التي باتت تهيمن على النقاش العام في مصر. إذ تسعى قوى سياسية كثيرة إلى استخدام التمثال رافعة لحملاتها السياسية، وأبدت جماعة «الإخوان المسلمين» اهتماماً ملحوظاً به فاختارته قبل أيام نقطة انطلاق لحملة دعم مرشحها لرئاسة مصر محمد مرسي. واللافت أن هذه الحملة جاءت قبل أيام من الاحتفال بالذكرى ال121 لميلاد محمود مختار الذي أعيد أخيراً افتتاح متحفه بعد تجديد المبنى، قرب جسر «قصر النيل» في مواجهة دار أوبرا القاهرة، غير بعيد من ميدان التحرير. ومختار هو أبرز نحّاتي مصر في القرن العشرين، ينتمي إلى الجيل النهضوي الذي التحق بكلية الفنون الجميلة لدى تأسيسها في العام 1908، مع راغب عياد ومحمد حسن ويوسف كامل، ثم سافر إلى باريس حيث التحق بمدرسة الفنون الجميلة، وعُيِّن مديراً فنياً لمتحف غريفان الشهير وعاصر النحات الفرنسي الشهير رودان وتردد على مرسمه. وصنع مختار في فرنسا مجموعة من التماثيل لمشاهير العصر في أوروبا والشرق، لكن غالبيتها دمرت خلال الحرب العالمية الأولى، وعند عودته كان من بين الفنانين الذين انخرطوا في ثورة 1919. وتتميز تجربة مختار في النحت بسمات خاصة عدة، أبرزها استعادة الهوية المصرية، إذ سعى دائماً إلى التعبير عن هذه الهوية، سواء بالتعامل مع خامات الغرانيت التي ميزت التماثيل في الحضارة المصرية القديمة أو لجهة الموضوعات من خلال التركيز على تماثيل لمثقفين ورموز من عصره، من سيد درويش والشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، مروراً بأم كلثوم، وصولاً إلى سعد زغلول وعدلي يكن. واعتبر النقّاد الفرنسيون مختار ندّاً لأنطوان بورديل (1861 – 1929)، ونال النموذج المصغر لتمثاله الأشهر «نهضة مصر» اهتماماً لافتاً في فرنسا، بل اعتُبر رمزاً لمسعى المصريين إلى الاستقلال. كما تبنّى مجد الدين حفني ناصف حملة صحافية لاكتتاب شعبي من أجل تنفيذ التمثال الذي يتسم بنزعة رمزية وروحية في آن واحد، التمثال الذي وصفه مختار ب»مفخرة حياتي». ويضم المتحف 70 عملاً نحتياً من البرونز والرخام والحجر الجيري، وكل تماثيل مختار الشهيرة، منها رياح الخماسين، إيزيس، الفلاحات، حاملات الجرار، ابن البلد، عروس النيل، وملكة سبأ. وتعيد مناسبة افتتاح المتحف الاعتبار، ليس إلى رائد فن النحت المصري فحسب، بل إلى فن النحت ذاته أيضاً والذي يتوقع البعض أن يواجه تقييداً في الأيام المقبلة مصدره القوى المحافظة. وحرص وزير الثقافة الجديد محمد صابر عرب على أن يكون افتتاح المعرض مهمة رسمية أولى له إذ حلّت بعد 48 ساعة من قرار تكليفه. وفي هذا السياق تُقرأ تصريحات عرب التي عبّر فيها عن «حاجتنا إلى استعادة روح مختار، فكل عمل من أعماله يخلّد الثقافة والحضارة المصريتين، ويستعيد الروح الوطنية بالعودة إلى الجذور». دراسة محيي الدين اللباد وتشكّل مناسبة افتتاح المتحف فرصة لتسليط مزيد من الضوء على أعمال مختار التي ما زالت قابلة لقراءات عديدة. فقد كشف ورثته، ويمثلهم وزير الثقافة المصري السابق عماد أبو غازي، مجموعة من رسوم الكاريكاتير التي نشرها مختار بين العامين 1920 و1928 ولم تنل حظها من الدراسة، باستثناء دراسة وحيدة كتبها فنان الكاريكاتير الراحل محيي الدين اللباد ودعا فيها إلى جمع هذه الأعمال التي تؤكد ريادة مختار لفن الكاريكاتير وإطلاقه أولى خطوات «تمصيره»، مركّزاً على نزعة «الغروتيسك» فيها، وهي نزعة تجلّت في تماثيل نحتها لسياسيّي عصره، وعلى رأسهم سعد زغلول. وتشير دراسة اللباد أيضاً إلى أن مختار بدأ باكراً عمله في مجال القصص المصورة (كوميكس)، ورسم حلقات عن الشخصية التراثية جحا، وسلسلة بعنوان «زغلوليات» ينتقد فيها سعد زغلول. وأكد أبو غازي ل»الحياة» أن العائلة «تخطط لجمع هذه الرسوم ونشرها»، معتبراً أنها «تبرز الجهد النهضوي لمختار في العمل على نقل الفن إلى الناس من خلال الصحافة». وفي سياق حملة الاكتشافات التي ارتبطت بمختار أخيراً، نفى أبو غازي أن يكون مختار تزوج من سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ونشر على «فايسبوك» مجموعة من الصور النادرة لأم كلثوم من أوراق مختار الخاصة. وأوضح أن الفنان، وخلال عمله في متحف غريفان، طُلب منه صنع تمثال لشخصية تمثل الإبداع الفني في مصر، فاختار أم كلثوم، وصنع لها تمثالاً شمعياً وُضع في إحدى قاعات المتحف، لكنه دمّر أثناء الحرب العالمية الثانية. إلا أن مختار صنع تمثالاً آخر لها لم يتبق منه سوى صورته قبل أن يكتمل.