في سنة 1609 بدأت إسبانيا في عهدي الملكين فيليب الثاني وفيليب الثالث مساراً عسيراً للتجزئة عندما طردت الموريسكيين الإسبان نحو الأراضي الإسلامية. وحتى الأب أزنار كاردونا وعلى رغم أنه لم يكن متعاطفاً مع هذه الأقلية المهمشة، أظهر شفقة إزاء المشهد الذي كان عليه هؤلاء المهجرون وقد لفّهم الغبار وأصابهم العطش وهم يتجهون في فوضى نحو المنفى. هذه شهادته:"غادر هؤلاء البؤساء في التوقيت الذي حدده لهم الضباط الملكيون ونزحوا سيراً على الأقدام أو على أحصنتهم وقد أخذت منهم الحرارة كل مأخذ وهم يجهشون بالبكاء في مشهد امتزجت فيه أصواتهم مع شكاويهم، مصطحبين نساءهم وأطفالهم ومرضاهم وأقاربهم المسنين، يلفهم الغبار وهم يتصببون عرقاً ويلهثون. وكان البعض منهم في عربات تجر أغراضهم وما يملكون من أشياء. أما بقية المهجرين فكانوا راكبين مع ما لديهم من اختراعات عجيبة من سروج وبرادع وقنب كانت مخصصة لحمل الماء، وجميعها محاطة بحاجز معدني وأكياس المؤن وقوارب الماء ومجموعة من السلال وأقمشة من نسيج الكتان ومعاطف وأشياء أخرى. وحمل كل واحد ما يقدر عليه وبعضهم يمشي رث الثياب منتعلاً حذاء من قماش... وتمكنت النساء من حمل ما قدرن عليه من مجوهرات ورزم والجميع يقوم بتحية من ينظر مردداً على أسماعهم"كان الله في عونكم". كان مشهد هؤلاء المهجرين فظيعاً."أخذ منهم التعب والألم مأخذاً وهم ضائعون بائسون مضطربون وخجلون مما حصل لهم. كانوا غاضبين وثائرين وجائعين. إلا أن بعضهم حالفه الحظ فوصل الى الأراضي المغاربية. وكان أحدهم وهو صاحب المخطوطة المتوافرة في مكتبة الأكاديمية الملكية في مدريد وظلّ مجهولاً الى يومنا هذا، نجح في أن يترك للتاريخ شهادة حية لوصوله الى تونس حيث استقبله شخصان فتحا له ذراعيهما وكان أحدهما هو الولي الصالح سيدي أبو الغيث القشاش والذي قام بحملة واسعة في البلاد لتأمين حسن استقبال الموريسكيين. أما الشخصية الثانية التي أحسنت وفادتهم فهو الوالي عثمان داي الذي حمى هؤلاء القادمين الجدد باعتبارهم أقلية أجنبية مستقلة تتمتع بخبرة فنية واقتصادية، ووضعهم مباشرة تحت حمايته السياسية وأعفاهم من الضرائب. وكان هذا الموريسكي صاحب المخطوطة سعى جاهداً ليترك للتاريخ شهادته حول هاتين الشخصيتين:"وهنا في أرض الإسلام استقبلنا عثمان داي ملك تونس، وهو صارم في عاداته، لكنه كان وديعاً معنا مثل الحمل، وكذا سيدي أبو الغيث القشاش، إذ بفضل بركته ساعدنا الرجال المسلمون الذين معه... مقدمين لنا حبهم وصداقتهم... أبو الغيث القشاش ساعدنا بتقديم المؤن ووفر لنا الزوايا في المدينة للاستقرار فيها مثل زاوية سيدي الزليجي حيث أقام الفقراء مع نسائهم وأطفالهم". سمحت لنفسي بإيراد هذا المقطع الطويل الذي يترجم الاستقبال التاريخي للموريسكيين الإسبان لأنه بعد أربعة قرون عاد مؤرخ تونسي الى تلك الملحمة... بوضع الذاكرة الموريسكية في مركز الاهتمام كأحد المشاغل العلمية الدولية اليوم. ويمكننا القول إنه مع الدراسات العلمية حول الموريسكولوجيا التي أطلقها عبدالجليل التميمي وكتب عنها استطاع الوصول الى خلاصات تتصل بالحوادث التي عرضها هذا المهاجر الموريسكي صاحب المخطوطة لدى وصوله الى تونس، فكانت"واحة من السلم وسط البحر الأبيض المتوسط"وشكلت جسراً رمزياً أستخدم هنا العبارات البليغة للصديق لوي كاردياك. ... إن الجسر بين الموريسكيين وإسبانيي القرن الذهبي، هو اليوم تحديداً الجسر الحقيقي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فالمراجعة الجماعية للذاكرة الموريسكية بدأت أولاً في أوفييدو سنة 1978 حيث أقيم أول مؤتمر عالمي حول هذا الملف برئاسة ألفارو غالمس دوفوانتس. وبعد ذلك التأم مؤتمر ثان في مونبلييه سنة 1981 بإدارة لوي كاردياك. ثم انتقل المشعل الى عبدالجليل التميمي الذي رتب أول لقاء علمي عن الموضوع في تونس في أيلول سبتمبر 1983، وقال يومها لوي كاردياك أمام المؤتمرين الدوليين"انه لشرف وسعادة كبيرة لي شخصياً أن أسلم المشعل الى تونس". وانطلاقاً من سنة 1983 الى اليوم أقيمت المؤتمرات العلمية عن الموريسكيين من دون انقطاع حتى تجاوزت الى اليوم 14 مؤتمراً. وطرق الباحثون في تلك المؤتمرات الدولية جوانب مختلفة من الظاهرة الموريسكية باللغات الإسبانية والعربية والفرنسية والإنكليزية. وهناك مجلدان صدرا سنة 1984 حول"دين الموريسكيين الأندلسيين وهويتهم والمصادر الوثائقية عنهم"، إضافة إلى أعمال أخرى مثل"الأدب الألخميادو الموريسكي: تزواج لغوي وعالم استطراد لا متناهٍ"1986، وپ"مهن الموريسكيين الأندلسيين وحياتهم الدينية"1990، وپ"ممارسة الموريسكيين الأندلسيين الشعائر الإسلامية 1609-1492"1989، و"ذكرى 500 سنة على سقوط غرناطة 1492"1993، وپ"وضعية الدراسات الموريسكية - الأندلسية في العالم"1995، وپ"الأسرة الموريسكية: النساء والأطفال"1997، وپ"صورة الموريسكيين في الآداب والفنون"1999، وپ"علم الموريسكولوجيا: الاتجاهات والمنهجية المستقبلية والمصادر الوثائقية الجديدة"2001، وپ"الموريسكيون والبحر الأبيض المتوسط والمخطوطات الألخميادية"2003، وپ"آداب الموريسكيين وتأثيراتهم في تونس وأميركا اللاتينية"2005، وپ"الصور الأدبية لدى الموريسكيين وكتاباتهم ولغتهم في القرن ال16"2007، وننتظر حالياً صدور أعمال المؤتمر الأخير الذي عقد في أيار مايو 2007، والذي تمحور حول الأدب والتاريخ الموريسكيين... لا بد من أن نشير إلى لائحة ثانية بمنشورات مهمة أخرى مثل رسالة إيفات كاردياك"السحر في إسبانيا: الموريسكيون والمسيحيون القدامى في القرنين 16 - 17"1996 ومؤلفات التميمي نفسه، وهي:"الدولة العثمانية وقضية الموريسكيين الأندلسيين"1991، وپ"دراسات في التاريخ الموريسكي الأندلسي"1989، وپ"الببليوغرافيا العامة للدراسات الموريسكية الأندلسية"1995 وكتابه الأخير"دراسات جديدة في التاريخ الموريسكي الأندلسي"2000. وعدد من الدراسات القديمة التي نشرت باللغتين الإسبانية والفرنسية، وتولى التميمي تعريبها مثل الرسالة الجامعية للويس كاردياك"الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية"1492-1630 وكتاب"الحياة الدينية للموريسكيين"لبدرو لونغا 1993. إن هؤلاء المهجرين الموريسكيين لم يكونوا فقط موجودين بيننا من خلال مخطوطاتهم ولكن أيضاً من خلال منح مواطنيهم التونسيين معارفهم المعمارية وفنياتهم اليدوية، وعلى الأخص فن الفخار والخزف. وتونس ما زالت تدين لهم بالكثير، فهم قدموا خبراتهم الزراعية، وكانوا متفوقين في الري وغراسة الأشجار المثمرة، وسعوا الى معاودة تعلم ديانتهم الإسلامية من جديد، وهي التي كانت محرمة عليهم في إسبانيا. كما عاودوا تعلم العربية لغة أجدادهم الأندلسيين، ولكنهم ظلوا مُتعلقين أيضاً بثقافتهم الإسبانية فترة طويلة، مثلما أشار إلى ذلك الأب فرنسيسكو خيمانس. وفي وسعنا سماع أغانيهم العاطفية الإسبانية التي تعود إلى القرن الثامن عشر. وفي مدينة تستور قدم لنا التميمي آخر سلالات الموريسكيين اللاجئة إلى هُنا بعد الهجرة القسرية الجماعية في سنة 1609. وعندما صافحنا أحد المتحدرين من السلالة القديمة أدركت جيداً مدى الاعتزاز والفخر اللذين يشعر بهما صديقنا الجديد لانتمائه الى السلالة الإسبانية - الإسلامية. * باحثة في جامعة بورتوريكو.