يتفق علماء القانون في كل أقطار العالم على تعريف محدد للقاعدة القانونية، وهي كونها تتسم بالعمومية والتجريد، بمعنى أنه لا يجوز أن يصدر تشريع ليطبق على فئات بعينها أو على أشخاص بذواتهم، كما أنها لا ينبغي أن تتوقف على بعض الظروف الخاصة أو الظواهر الطارئة. وصياغة القاعدة القانونية وتطبيقها لهما أصول مرعية. وأهمها أن تصدر من المشرع، أي الهيئة التي أناط بها الدستور مهمة سن القوانين، وأن تنشر علانية حتى يعرف بأحكامها المخاطبون بها، والمجتمع عموماً، وأن تطبقها هيئات قانونية مختصة، ينظم طريقة عملها القانون، في ضوء التزام دقيق بأحكام الدستور. هذا هو الوضع القانوني العالمي في الدول التي تطبق بدقة مبدأ سيادة القانون، وهذا هو الذي يفرق بوضوح بين ما يطلق عليه الفقه القانوني المقارن"الدولة القانونية"و"الدولة البوليسية". في الأولى يطبق مبدأ سيادة القانون، وفي الثانية تهيمن عليها إجراءات القمع من دون شرعية قانونية، ويمكن القول إن الأحداث الإرهابية التي وجهت ضرباتها القاصمة ضد الولاياتالمتحدة الأميركية في 11/9/2001، وأدت إلى أن تشن الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش حربها الشهيرة ضد الإرهاب، أحدثت انقلاباً كاملاً في مجال صياغة التشريعات الأميركية. ففي إطار سعي الإدارة الأميركية الحثيث لمواجهة الإرهاب، أصدرت عدداً من التشريعات القانونية التي تخالف بوضوح مبدأ سيادة القانون، وكأنها تصدر عن"دولة بوليسية"تمارس القمع ضد فئة من المواطنين الأميركيين، أو الأجانب الذين يتهمون بالإرهاب. فقضت هذه التشريعات بمحاكمة هؤلاء المتهمين محاكمات عسكرية وفي جلسات سرية، وفي غيبة محام للدفاع، كما أن هذه الهيئات القضائية من حقها أن تحكم بعقوبات تصل إلى الإعدام من دون معقب عليها. وصدرت أيضاً تشريعات تبيح التنصت على المكالمات الهاتفية للمواطنين الأميركيين وتبيح لهيئات الشرطة أن تقبض على المشتبه بهم، وتستجوبهم بطرق مضادة للإجراءات المتبعة في قوانين الإجراءات الجنائية وفيها خرق واضح لحقوق الإنسان. والخطير في هذه التشريعات الأخيرة أنها أدمجت في البنية القانونية الأميركية بطريقة سرية، حتى لا يتم الاعتراض عليها سواء من الكونغرس، أو من المجتمع القانوني الأميركي بما يضمه من قضاة ومستشارين ووكلاء نيابة ومحامين وأساتذة القانون. ونشرت جريدة"نيويورك تايمز"الأميركية في عددها الصادر في 4 تشرين الأول أكتوبر الجاري تقريراً مطولاً عن هذا الموضوع بعنوان"التضمين السري الأميركي لإجراءات الاستجواب العنيفة". وتبدأ القصة في كانون الأول ديسمبر عام 2004 حين أعلنت وزارة العدل الأميركية رأيها القانوني في موضوع"تعذيب المتهمين في مرحلة الاستجواب"باعتباره إجراء غير مقبول. ومعنى ذلك، كما تقول الصحيفة، أن وزارة العدل بإصدارها هذا الرأي القانوني تبدو كما لو كانت راجعت تأكيد الإدارة الأميركية في بداية حربها ضد الإرهاب أن الرئيس الأميركي يمتلك سلطة غير محدودة لكي يأمر المسؤولين عن استجواب المتهمين بالإرهاب بممارسة طرق وحشية لاستنطاقهم! غير أنه عقب تولي ألبرتو غونزاليس النائب العام الجديد منصبه في شباط فبراير 2005 وهو الذي أجبر أخيراً على الاستقالة بسبب ما نسب إليه من إقالة ستة وكلاء نيابة لم ينفذوا توجيهاته غير القانونية تحول الموقف. فأصدرت وزارة العدل فتوى قانونية سرية تضفي الشرعية على أشد أساليب التحقيق الجنائي وحشية التي تطبقها وكالة الاستخبارات المركزية C. I. A. وللمرة الاولى تنص هذه الفتوى القانونية على التصريح بتعذيب المتهمين في مرحلة الاستجواب، باستخدام مجموعة متنوعة من أساليب الضغط المادي والنفسي. ويتضمن ذلك الضرب على الرأس، أو عملية الإغراق التي تتم بشكل تخيلي، أو إخضاع المتهمين لدرجات حرارة منخفضة للغاية، بشكل يكاد يجمد الجسم البشري، واعترض على هذه الفتوى التي أصدرها النائب العام غونزاليس نائبه جيمس كومي James B. Comey الذي كان بصدد استقالته من منصبه بعد مصادمات عنيفة مع البيت الأبيض، واحتج كومي على هذه الإجراءات المقترحة على أساس أنها مضادة لقواعد الفكر القانوني الراسخ، بل إنه صرح لزملائه في وزارة العدل بأنهم سيخجلون من أنفسهم حين يطلع العالم على هذه المذكرة القانونية التي تضفي الشرعية على تعذيب المتهمين. غير أن الكونغرس تحرك في نهاية العام في اتجاه اعتبار معاملة المتهمين بطريقة"قاسية وغير إنسانية ومحطة من قدرهم"مسألة غير قانونية. إلا أن أعضاء الكونغرس لم يعلموا أن وزارة العدل أصدرت فتوى سرية أخرى أعلنت فيها أن وكالة الاستخبارات المركزية لم تخالف القانون في استجوابها للمتهمين بالإرهاب. وهذه الفتاوى القانونية السرية التي أصدرتها وزارة العدل الأميركية أشبه ما تكون"بخبيئة سرية"أنتجتها إدارة الرئيس بوش في فترة ولايته الثانية، وأشرف على إخراجها النائب العام غونزاليس، في مواجهة ثورة عدد من القانونيين في وزارة العدل، الذين دانوا تطبيق السياسات الخاصة بالمراقبة والقبض على الأشخاص لمجرد الاشتباه. والحق أن الكونغرس والمحكمة العليا الأميركية تدخلا مراراً في العامين الماضيين، لوضع حد للتجاوزات في مجال استجواب المتهمين، غير أنه منذ عام 2005 ووزارة العدل لا تلقي بالا لهذه الاعتراضات، بل تضفي الشرعية على الاستجوابات غير القانونية في مذكرات قانونية متتابعة، مما يعني أن البيت الأبيض أصر على ممارسة هذه الإجراءات المضادة للقانون. وقرر العاملون في وزارة العدل الأميركية أن غونزاليس النائب العام لم يقاوم إطلاقاً أوامر تشيني نائب الرئيس بتقنين إجراءات الاستجواب الوحشية ضد المتهمين الذين - في زعمهم - يهددون أمن وسلامة أميركا. وذلك رغم أن هذه الإجراءات أدت إلى إدانة حكومات أجنبية متعددة للموقف الأميركي، وكذلك العديد من جمعيات حقوق الإنسان. ووقع المذكرة الخاصة بالاستجوابات غير القانونية ستيفن برادبوري الذي يرأس منذ عام 2005 مكتب النخبة للاستشارات القانونية في وزارة العدل، وأصبح منذ هذا التاريخ"المدافع الأول عن سياسات وكالة الأمن القومي"، وذلك في جلسات الاستماع في الكونغرس، وفي التصريحات الصحافية. وهذا الدور الذي يقوم به كان محل اعتراض من قبل أساتذة القانون الذين قرروا أن تقاليد وزارة العدل لا تتيح لأحد من العاملين فيها أن يقوم بدور المروج لسياسة ما تطبقها الإدارة الأميركية، وخصوصا إذا كانت سياسات مضادة للقانون نصاً وروحاً. ويقرر تقرير"نيويورك تايمز"أن سياسات الإدارة الأميركية في ما يتعلق بالتعامل مع المتهمين بالإرهاب لا تخضع لنقاش علني، كما أنها لم تعرض على الكونغرس للتصويت عليها، ولكنها بدلا من ذلك استندت إلى الآراء القانونية المحبذة لعدد محدود من الموظفين القانونيين. وتلزمنا ضرورة العرض الموضوعي لظاهرة التعليمات القانونية السرية التي أصدرتها وزارة العدل الأميركية بإضفاء الشرعية على تعذيب المتهمين لاستنطاقهم في مرحلة الاستجواب، والتي تمثل ضربا من ضروب الانحراف القانوني، أن نذكر أن هناك في المجتمع الأميركي هيئات حاولت التصحيح القانوني لهذه الأوضاع، وفي مقدم هذه الهيئات المحكمة الدستورية العليا. وأصدرت هذه المحكمة حكما عام 2006 مقتضاه أن"معاهدات جنيف"تطبق على السجناء الذين ينتمون لتنظيم"القاعدة". ولذلك صرح الرئيس بوش للمرة الاولى أن هناك سجونا سرية أقامتها وكالة الاستخبارات المركزية، وأمر بنقل السجناء إلى معسكر غوانتانامو في كوبا، وأعلن أن وكالة الاستخبارات الأميركية أوقفت إجراءات تعذيب المتهمين. ومع ذلك وقع الرئيس الأميركي بعد ذلك على أمر رئاسي يصرح باستخدام آليات تحقيق يطلق عليها"متطورة"، مع أن تفاصيلها ظلت سرية، ما يدل على أنه رغم حكم المحكمة الدستورية العليا فإن تكتيك إصدار الأوامر الرئاسية والمذكرات القانونية السرية مازال مستمرا، في ضوء استراتيجية المواجهة غير القانونية للمتهمين بالإرهاب. وهكذا يتضح أنه إلى جانب سوء استخدام السلطة في مجال السياسة الخارجية التي مارسها الرئيس بوش وأركان إدارته وعلى رأسهم تشيني نائب الرئيس، يضاف الآن الانحراف في تطبيق القانون، من خلال إجراء غير مسبوق، لم تلجأ إليه إطلاقا من قبل دولة قانونية متحضرة، وهو تقنين تعذيب المتهمين باسم الحفاظ على الأمن القومي! * كاتب مصري