تتصدر قضية فلسطين والعلاقة مع العراق عملية البحث العربي عما يجب القيام به اقليمياً ودولياً إزاء تنامي ايران قوة وخطورة. هذا أمر جيد لكنه يتطلب التفكير بغير الطرق المعهودة ويحتاج الى انقلاب على نوعية التفكير التقليدية. أول مساهمة جدية في مثل هذا التغيير هي ضرورة صياغة استراتيجيات عربية تأخذ في حسابها احتمال قيام تفاهم بين ايران والغرب وليس فقط افتراض قيام مواجهة ايرانية - اميركية. استراتيجيات تنطلق من توقع الأسوأ فلسطينيا وعراقياً وكذلك لبنانياً. رؤى تتصور ان الولاياتالمتحدة لن تتعلم من أخطائها ولن تستيقظ الى مخاطر سياساتها ولن تهتم بأي صديق أو حليف سوى بالقدر الذي يحفظ مصالحها الآنية. بكلام آخر، ان القيادات العربية التي تعتبر نفسها جزءاً من معسكر الاعتدال وتبحث عن استراتيجية فاعلة في وجه التطرف، تواجه وضعاً غريباً تضيع فيه ملامح الاعتدال والتطرف في الشراكات الاقليمية والدولية الخطيرة. ولذلك تجد نفسها في ارتباك حيناً وفي حيرة أحياناً. ومن المهم بالتالي أن تراجع هذه القيادات نفسها وبيئتها وشراكاتها كي لا تفوت الفرص وكي لا تسقط في دوامة التوقعات الخاطئة والافتراضات. في الموضوع الفلسطيني، ما حدث أثناء الدورة ال61 للجمعية العامة للأمم المتحدة هو مزيج من الانجاز ومن الفرص الضائعة، فلقد تصدرت القضية الفلسطينية الاهتمام الدولي نتيجة استراتيجية عربية، على مستوى جماعي وعلى مستوى فردي، بعدما غابت عن البال. وبذلت الرئاسة اليونانية لمجلس الأمن هذا الشهر جهداً كبيراً لتلبية طلب جامعة الدول العربية بعقد جلسة وزارية تسلط الأضواء على تفعيل البحث عن سلام حقيقي بدلاً من الغرق في طيات"عملية"السلام وسباتها العميق. وقد نجحت جهود الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في طرح الصراع العربي - الاسرائيلي وفي دفع"اللجنة الرباعية"الى الاجتماع وفي عقد جلسة وزارية لمجلس الأمن. لم ينجح في فكرة اطلاق آلية لمجلس الأمن انصبت بمعظمها على القضية الفلسطينية. والى جانب تحرك جامعة الدول العربية وانعقاد مجلس الأمن، تحركت الديبلوماسية السعودية والمصرية والاردنية على كل المستويات لانعاش الاهتمام الأميركي الدولي بالمسألة الفلسطينية باعتبارها المفتاح الرئيسي لحل النزاع العربي - الاسرائيلي والاستقرار في المنطقة. العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني تحرك ونسق في المنطقة ثم بعث موفداً الى واشنطن برسالة واضحة هي ان الاعتدال في الساحة العربية معرض للنسف إذا لم تبد الادارة الاميركية بصورة فورية وملحة اهتماماً ملحوظاً بالملف الفلسطيني وتعطي رؤية قيام دولة فلسطين زخماً جدياً وفاعلاً وصادقاً. الرئيس الاميركي جورج بوش فهم الرسالة العربية الآتية من صفوف الاعتدال ورد عليها في خطابه أمام الجمعية العامة وأثناء اجتماعه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس. فحوى ما أراد إبرازه هو انه ملتزم برؤية قيام دولة فلسطين الى جانب اسرائيل وان هذه الرؤية تبقى من أهم أهداف رئاسته. قال ايضاً ان الدولة الفلسطينية يجب أن"تتمتع بتكامل جغرافي"وقال انه كلف وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس قيادة الجهود الديبلوماسية من أجل تحقيق قيام الدولة الفلسطينية. وقال انه يجد في محمود عباس الشريك الشجاع و"رجل سلام"للمفاوضات مع ايهود اولمرت، رئيس وزراء اسرائيل، مما شكل رسالة الى اولمرت بأن الوقت حان للكف عن المواربة ورفض التفاوض الجدي بحجة عدم توافر الشريك الحقيقي في المفاوضات. ما لم يقدمه جورج بوش الى محمود عباس هو أي تنازل أو مساومة على شروط تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية تضم حركة"حماس". قال له ما معناه انه ليس ضد حكومة وحدة فلسطينية اذا لبت"حماس"شروط"الرباعية"، وهي الالتزام بالاتفاقات السابقة ونبذ العنف، والاعتراف بحق اسرائيل في الوجود. وقال له ما معناه: لا مجال على الاطلاق للتعامل مع اي حكومة فلسطينية تريد تدمير اسرائيل وإزالتها من الوجود. تركيز محمود عباس على حكومة الوحدة الفلسطينية اثناء لقائه المهم الذي دام أكثر من ساعة مع جورج بوش تعرض لكثير من الانتقاد عربياً، وأدى بالبعض الى القول انه أهدر فرصة نادرة، بل وقع في فخ نصبته له"حماس"واعطى اسرائيل ذخيرة للذريعة التي تريدها لتجنب أي تنازل. بكلام آخر، ان الرئيس الفلسطيني، حسب هذا الرأي، افرط في حسن النية وفي استثمار الجزء الكبير من ساعة مع الرئيس الاميركي في شرح تفاصيل تفاهماته المبهمة مع"حماس"، فيما كان عليه ان يفهم ان لا مجال على الاطلاق لموافقة أميركا أو اسرائيل على شراكة في التفاوض معه طالما"حماس"ترفض شروط"الرباعية"الدولية التي تضم أوروبا وروسيا والأمم المتحدة. بتعبير آخر، ان محمود عباس لم يخدم نفسه بل خدم"حماس"و اسرائيل في اتفاقهما كأمر واقع على رفض الشراكة والمفاوضات وعلى استبعاد الاعتدال. فبدلاً من رمي الكرة في الساحة الأميركية والاسرائيلية لمطالبتهما بتعديل سياساتهما وتحميلهما مسؤولية نقل المسألة الفلسطينية الى مرتبة جديدة، اعطاهما الرئيس الفلسطيني - بحسن نية - ورقة ثمينة عنوانها: ان المشكلة هي الحكومة الفلسطينية. مشكلة جورج بوش في التعاطي مع الملف الفلسطيني متعددة الجوانب، اذ يوجد داخل ادارته تطرف يكاد يضاهي التطرف الاسرائيلي، وخصوصا عبر نائب مستشار الأمن القومي اليوت ابرامز ونائب الرئيس الشهير في انبطاحه أمام اسرائيل ديك تشيني. لكن مشكلة بوش لا تتوقف عند رفض اسرائيل التفاوض الجدي على الحلول الممكنة للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، انما مشكلته تنبع ايضاً من تفاهمات اسرائيلية - سورية، كما من مخيلات وتمنيات وأوهام. فاللوبي الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة يضم جماعات رئيسية تصر على أن أهم وأقوى صمام أمان لاسرائيل هو النظام الحاكم في سورية، ويضم ايضاً توجهات تعتقد انه يمكن عزل سورية عن ايران. هذه الجماعات لا تبالي بفلسطين ولا بلبنان ولا بالتعهدات الاميركية. أما الشق الذي يتوهم عزل دمشق عن طهران فإن ما يسمى ب"حزب الاغبياء"الذي يضم اسرائيليين يعتقدون ان ترغيب الحكومة السورية بمفاوضات مع اسرائيل حول الجولان كاف لابعادها عن طهران. هؤلاء يجهلون أن النظام في طهران هو صمام أمان للنظام في دمشق. لكن ماذا سيحدث لايران وهل هي حقاً فوق المحاسبة؟ قراءة البعض هي ان الجمهورية الاسلامية في افضل حالاتها وانها ستتلاعب بالانقسامات الغربية لاعتبارات نفطية روسية وصينية لدرجة تسمح في نهاية المطاف بامتلاكها القدرة النووية العسكرية. فقد شوهد السفير الايراني في حفل استقبال في نيويورك يقول للسفير الصيني: ماذا تريد ان تفعل؟ ورد السفير الصيني منحنياً أمام السفير الايراني قائلاً: ماذا تريد مني أن أفعل؟ على رغم ذلك، هناك رأي آخر يستند الى معلومات تقول ان هناك تصميما اميركيا وبريطانيا على رفض السماح لايران تحت أي ظرف بامتلاك القنبلة النووية وعلى منع الانقسام بين الدول الست التي انذرت ايران وقدمت لها رزمة الحوافز، وهي الولاياتالمتحدةوبريطانيا والمانيا وفرنسا والصين وروسيا. ما يقوله اصحاب هذا الرأي هو ان بريطانيا بدأت باجراءات عبر القطاع المصرفي وغيره من القطاع الخاص لفرض عقوبات تجارية وقيود على استثمارات وتحويلات الى ايران. لكن الحكومة البريطانية تنفي أنها أصدرت الى القطاع الخاص هذه التعليمات ولكن الايرانيين طلبوا توضيحات من البريطانيين وتركوا الانطباع بأنهم متخوفون من هذه الخطوة. فبريطانيا صديق تاريخي لايران قدمت لها الحماية وحمت قطاعها النفطي لسنوات عدة. لذلك فمنع طهران من الاستفادة من أي تسهيلات مصرفية وحرمانها من الاستفادة من مداخيلها النفطية يجعلها تدرك ان هذه خطوة على طريق المواجهة الأكبر. الغرب، وبالذات الاميركيون والبريطانيون، حمّلوا أصدقاء ايران رسائل عدة اليها تنصحها بالقبول برزمة الحوافز وتنبهها الى ان الاعتقاد بان الدعم الصيني والروسي لها سيترجم الى استعداد للدخول طرفاً عسكرياً معها في حرب مع الغرب هو اعتقاد خاطئ تماماً. العرب من جهتهم، في خضم اعادة فرز العدو عن الصديق والخطر الايراني عن الخطر الاسرائيلي، أدركوا ان العراق حلقة مهمة، لذلك استفاق بعضهم الى ضرورة المساهمة العربية بتعامل افضل مع العراق كي لا يُترك فريسة لايران. فالعمل على استعادة العراق الى الحضن العربي تتطلب الطلاق من التقليد الخاسر السابق والاقدام على اعفاء العراق من الديون المترتبة عليه والوقوف جهراً في وجه الارهاب اليومي الذي يحصد الأبرياء من كل مذهب. يبقى ان البحث والتفكير في الخيارات والتحديات أمر ضروري وجيد. وما يجب التنبه اليه هو ان هناك مؤشرات على ضعف يرتدي بزة الاستقواء في أكثر من ساحة. هناك خوف في محله وهناك تخويف يستخدم لانتزاع تنازلات. هناك تطرف يلبس قميص الصفقات السرية وهناك اعتدال لا يعرف أصحابه عنه سوى انه عربة الى محطة في رحلة العمر مع السلطة.