رواية الكاتب الياباني كازوو إشيغورو الأخيرة "لا تتخلّ عني أبداً" دار فنتدج انترناشونال، نيويورك 2006 رواية غريبة من نوعها : غريبة، مؤثرة، مزعجة ومؤلمة إلى أقصى الحدود، وقد تمكن الأديب من حبك قصة تشدك من الصفحة الأولى بما يكتنفها من غموض وألغاز حتى تكشف للقارئ تدريجاً القضية الإنسانية الفلسفية التي تثيرها. تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام، بطلتها"كاثي"هي راويتها. إنها الآن في الحادية والثلاثين من عمرها، تعمل منذ أكثر من إحدى عشرة سنة كمعتنية. بمن؟ كيف؟ أين؟ لماذا؟ أسئلة لا جواب عنها فيندفع القارئ إلى متابعة الأحداث لعله يجد الجواب. في القسم الأول من الرواية تعود كاثي إلى ذكرياتها في مؤسسة تدعى هايلشام مع بنات وصبيان مراهقين كانوا معها، ومن أقربهم إليها روث وطومي. مراهقون لا ذكر لأهلهم أو أقارب لهم، قد يكونون يتامى في ميتم، لا يعرفون شيئاً عن أسرهم ولذلك لا يفتقدونهم. وببراعة فنية يصور لنا الكاتب عالم هؤلاء المراهقين، دروسهم، قراءاتهم، خضوعهم الدوري لفحوص طبية، ألعابهم، أسرارهم، خلافاتهم، تنافسهم لإتقان الرسوم التي أبدت المعلمات اهتماماً شديداً بها، لا سيما لأن"مدام"كانت تأتي كل ثلاثة أشهر أو أربعة لتختار الأفضل من بينها وتأخذها إلى معرضها الفني."مدام"صارمة، تنفر من الأولاد أما هم فيخافونها. من هذه"المدام"؟ ماذا كانت تفعل برسوم الأولاد؟"لعلها تبيعها"قال أحدهم. بما أنهم كانوا مفصولين تماماً عن العالم الخارجي، لا يغادرون المدرسة أبداً، لا صلة لهم بأحد خارج مدرستهم ومعلميهم، لم يستطيعوا أن يتصوروا ما يدور في هذا العالم وأن رسومهم لا يمكن أن يكون لها سوق. وكلما سأل أحدهم سؤالاً أو أبدى اعتراضاً أو شكوى كانت المعلمات تذكرهم بأنهم"مميزون". فيمَ؟ ماذا يميزهم؟ ولكننا لا نتوقف طويلاً عند هذه الأسئلة إذ نتابع بشغف تطور العلاقات بين هؤلاء المراهقين، عنف طومي وغضبه السريع الذي تحول فجأة إلى هدوء متأنٍ، فيوضح لكاثي أن ذلك تمّ بفضل إحدى المعلمات"ادعاءات روث الكاذبة التي تخاف كاثي أن تفضحها حرصاً على صداقتهما"الغيرة الخفية التي شعر بها الآخرون حين رأوا مقلمة روث الجميلة"ثم شريط الأغاني القديمة التي كانت كاثي شغوفة بالاستماع إلى إحداها"بيبي بيبيbaby لا تتخلَّ عني أبداً". وكلمة baby بالإنكليزية تعني الطفل وتستخدم في الوقت ذاته لتدليل الحبيب أو الحبيبة. حملت كاثي مخدة مرة وأخذت ترقص في غرفتها على أنغام هذه الأغنية مغمضة عينيها، وحين فتحتهما رأت"مدام"في الباب تراقبها وتبكي. صعقت الفتاة، ولم تطلع أحداً على الحادث. ولا يتضح للقارئ إلا في آخر الرواية سبب اختيار إشيغورو هذه الأغنية عنواناً لروايته، وسبب بكاء"مدام"حين رأت الفتاة ترقص على أنغامها. ثم يختفي الشريط، وعبثاً تحاول كاثي وأصدقاؤها البحث عنه. وحين بلغ المراهقون الخامسة عشرة كان لا بد للصداقة من أن تتطور بين بعضهم بعضاً إلى علاقات جنسية لم تمانعها الهيئة التعليمية على الإطلاق، إذ كانوا يعرفون جميعاً أن البنات لا يستطعن الإنجاب. أما القارئ، فلن يعرف السبب إلا لاحقاً. وهكذا أصبح طومي عشيق روث. وحين اختلفا رجت كاثي أن تعيد علاقة الحب بينهما. وذات يوم أبدى"غوردون"أمله في أن يصبح ممثلاً في هوليوود، وإذ بأقرب المعلمات إليهم، الآنسة"لوسي"، تتأملهم جميعاً وتقول إنها تريد أن تطلعهم على ما رفض الآخرون البوح به، وهو أنه لن تكون لهم في المستقبل أية مهنة من المهن. سيكبرون، ولكن قبل أن يشيخوا خُطّط لهم أن يتبرعوا بأعضائهم. من أجل ذلك خُلق كل منهم وهذا كان هدف وجودهم. حين بلغ المراهقون السادسة عشرة اضطروا إلى مغادرة"هايلشام"ليتوزعوا على مؤسسات مختلفة، فيبدأ القسم الثاني من الرواية. وكان من حظ كاثي أنها وروث وطوم أرسلوا إلى مكان واحد"الأكواخ"الذي اختلف كل الاختلاف عن مدرستهم: كان قديم المباني، رطباً، تعوزه كل وسائل الراحة. ولكن كان في وسعهم أن يغادروا المكان، وعاد أحدهم يوماً يخبر روث أنه شاهد من قد تكون"ممكنة". لغز آخر يجابه القارئ. وينطلق معه روث وكاثي وطوم، يبحثون عن المكان الذي شاهد فيه هذه"الممكنة"وحين يرونها يحاولون أن يجدوا شبهاً بينها وبين روث. أيمكن أن تكون"أم روث"؟ هل هذا المقصود بپ"الممكنة"؟ ولكن بعد التدقيق يتضح أن لا شبه بينهما وتحاول روث أن تخفي خيبتها. ثم يبدأ الشبان والشابات بمغادرة"الأكواخ"لبدء تدريبهم على أن يصبحوا"معتنين"، ومن بينهم كاثي التي تغادر قبل صديقيها روث وطومي. القسمان الأول والثاني يمهدان للقسم الثالث من الرواية حيث تفكّ خيوط الألغاز كلها، ولكن خيطاً خيطاً قبل أن نصل إلى الهدف الأساس الذي رمى إليه إشيغورو في هذه الرواية. تلتقي كاثي بين حين وآخر بعض من كنّ معها في المدرسة الأولى أو في"الأكواخ"وأصبحن مثلها"معتنيات"، ومن إحداهن تعلم أن صديقتها روث تبرعت بأول أعضائها وعلى وشك التبرع بالثاني، ومن آخر تعرف أن مدرستهم"هايلشام"قد أغلقت، أو دمّرت، أو أعيد بناؤها كفندق. وفي النهاية تقرر أن تعتني بروث في مصحّها قبل أن تتبرع بعضو ثان. من روث تعرف أن طومي في مصح آخر بعد أن تبرع بثلاثة من أعضائه، وتقنعها صديقتها بالقيام معه برحلة لمشاهدة زورق غارق على شاطئ البحر. أثناء هذه الرحلة تبوح لها روث بأنها كانت تتقصد إبعاد طومي عنها مع علمها أن كاثي أنسب له منها هي روث، وبما أنها الآن على وشك الموت تطلب منهما السماح، ومن كاثي أن تعتني بطومي. وقالت إنها سمعت أن شخصين يحبان بعضهما حباً صادقاً يستطيعان طلب تأجيل التبرع بأعضائهما مدة ثلاث سنوات. وتفاجئهما روث بأن تعطيهما عنوان"مدام"ليتوجها إليها بهذا الطلب. تموت روث، وتنتقل كاثي للعناية بطومي، وبعد أن تتطور صداقتهما إلى حب حقيقي يتذكران اقتراح روث وينويان التقدم بطلب تأجيل التبرع بالأعضاء. وتبحث كاثي عن بيت"مدام"ثم تذهب إليه برفقة طومي. تفتح لهما"مدام"الباب ويفاجئهما وجود الآنسة"إميلي"، إحدى مدرساتهما في مدرستهما الأولى. تقول لهما إن السماح بتأجيل التبرع بالأعضاء ليس سوى إشاعة لا صحة لها، لسوء الحظ، ولكنها تجيب الآن عن الأسئلة التي كانت تراودهما وتراود القارئ خلال هذه الرواية كلها. الرسوم التي كانت تأخذها"مدام"كانت للبرهان على أن لهؤلاء الأولاد أرواحاً، إذ شك الناس في أن يكون للأولاد المستنسخين أرواح. وتضيف الآنسة أنهم حتى الآن يشكون في ذلك ومن هنا يعاملون الأولاد المستنسخين معاملة رديئة جداً، على نقيض ما كان يحصل في"هايلشام". وإذ غلب التيار المشكك في أن لهؤلاء الأولاد أرواحاً قلّ من تبرع لهايلشام، فاضطروا إلى إغلاق المؤسسة. أخيراً يتضح لنا أن شخصيات الرواية كانوا أولاداً مستنسخين، وقد استُنسخوا لكي تستخدم أعضاؤهم في علاج من يحتاج إليها. وتوضح الآنسة"أميلي": بما أن تطور العلم السريع فتح أمام العلماء آفاقاً واسعة في إمكانية علاج ما كان الطب قد عجز عن معالجته سابقاً، لم يبالوا إلا بذلك، ولم يهمهم أن هذه الأعضاء أعضاء بشر ربما يشعرون، يحسون، يفكرون. وحين أخذوا يتساءلون عن جدوى استنساخ البشر كان قد فات أوان العودة إلى الوراء، فمهما أقلق الناس وجود أناس مستنسخين، كان همهم الأول معالجة أولادهم، نسائهم، أقاربهم، فظلوا يعتبرون أن الأولاد المستنسخين ليسوا بشراً بكل معنى الكلمة. في النهاية تجرأت كاثي على سؤال"مدام"عن سبب بكائها حين رأتها ترقص على أنغام أغنية"بيبي، بيبي، لا تتخلَ عني أبداً"، موضحة أنها كانت تفكر حينها في امرأة لم تنجب خلال مدة طويلة ثم منحها الله طفلاً لم ترد أن يتركها. إلا أن"مدام"أكدت أنها بكت لسبب مختلف تماماً:"حين رأيتك ترقصين ذلك اليوم رأيت عالماً جديداً يهجم علينا بسرعة. أكثر علماً، وفاعلية، أكثر الوسائل لمعالجة الأمراض القديمة. هذا حسن. ولكنه عالم قاسٍ، وحشي. ورأيت بنتاً صغيرة، مغمضة العينين، تشد إلى صدرها العالم القديم الحنون، عالماً تعرف في قرارة نفسها أنه لن يبقى. كانت تمسك هذا العالم ترجوه ألاّ يتخلَّ عنها أبداً... هذا ما رأيته، وهذا ما كسر قلبي". ص272 وهنا تتبلور الغاية التي رمى إليها الكاتب في هذه الرواية الرائعة. إنها رواية تستمد أحداثها من الواقع، من حياة الناس العادية، من روحهم، جنسانيتهم، حبهم، إبداعهم، وبراءة طفولتهم. ولكنها تبيّن المستقبل الذي قد يؤدي إليه هذا الواقع. فيها أراد إشيغورو أن يؤكد المأساة اللاإنسانية التي يسوقنا إليها تطور العلم السريع الذي لا يأخذ في الاعتبار غير العلم، بصرف النظر عما يترتب عليه من نتائج. بدأوا باستنساخ الحيوانات، ولكن من يدري أن استنساخ البشر لن يأتي يوماً، فنصل إلى ما صورته هذه الرواية: استنساخ أولاد لن يُعتبروا بشراً، مع أنهم بشر، أولاد فائدتهم الوحيدة هي في تقديم أعضائهم، عضواً تلو الآخر، لإنقاذ أناس آخرين لا يبالون بآلامهم، بوحدتهم، بغربتهم، وفي آخر المطاف، بموتهم. نعم، قد يبدأ العلم بأن يكون في خدمة الإنسان، ولكنه قد يضيّع الإنسان نفسه في بحثه الحثيث عن التقدم والاكتشاف والاختراع. هذا ما أراد أن ينبهنا إليه إشيغورو من خلال أحداث رواية كشف تطور حبكتها الفني عمق المأساة التي تصور.