يسمح المعرض الكبير المقام الآن في "القصر الكبير" باكتشاف روائع من الآثار المصرية القديمة التي استخرجت من ثلاثة مواقع هي: ميناء الإسكندرية شرقاً، وخليج أبوكير، ومدن كنوب وهيراكليون. نصف مليون قطعة من الكنوز المصرية المغمورة التي اكتشفها فرانك غوديو وفريقه المتخصص في البحث عن التراث المغمور تحت المياه البحرية، وهي تروي ألفاً وخمسمئة سنة من التاريخ الثقافي والفني الذي تتداخل فيه ثقافات متعددة، تمتد من نهاية عهد الأسر الفرعونية إلى الفترة البيزنطية، مروراً بالحقبة الإغريقية وفترة الحكم الروماني، وصولاً إلى بداية العهد الإسلامي. جمعت هذه القطع الرائعة على امتداد أكثر من خمس عشرة سنة من عمليات التنقيب والمسح الأثري المتواصل في مياه ميناء الإسكندرية وخليج أبي قير بالتنسيق مع المجلس الأعلى للآثار في مصر، وهي تُعرَض للمرة الأولى أمام الجمهور الفرنسي، في البهو الزجاجي الفسيح للقصر الكبير في باريس الذي أعيد ترميمه في السنوات الأخيرة. وكان سبق للقطع المصرية أن عُرضت في ألمانيا قبل شهور. يذكّر المعرض بالاهتمام الكبير الذي خصّته فرنسا للحضارة الفرعونية، وهي أكثر الحضارات التي يوليها الفرنسيون اهتمامهم لأسباب عدّة، أوّلها أنّ آثارها تنطوي على قوة وسحر وغرابة، وثانياً لأنّ فرنسا تعتبر أنها أعادت اكتشاف هذه الحضارة من خلال الأعمال التي قام بها العالم شومبوليون والتي أدّت إلى فكّ ألغاز اللغة الهيروغليفية. ويبرز هذا الاهتمام الكبير عبر علم"المصريات"الذي تمّ تكريسه منذ قرون كعلم قائم بذاته، ويدرَّس في المعاهد والجامعات ومنها"الكوليج دو فرانس"وما يواكب ذلك من دراسات وبحوث وإصدارات للتعريف بهذه الحضارة. هذا فضلاً عن الحيّز الذي أفردته فرنسا للحضارة الفرعونية في متحف"اللوفر"والذي عملت في السنوات الماضية على إعادة توليفه وتجديده بحيث أصبح القسم الفرعوني في"اللوفر"في طليعة الأقسام الفرعونية في كل المتاحف العالمية. واللافت في المعرض الراهن تفاوت أحجام أو موضوعات القطع الأثرية المعروضة، ومنها على سبيل المثل تمثال"هابي"، إله الفيضانات، وهو يرمز إلى النيل في قوته وخصوبته. هناك أيضاً تمثال ضخم يمثّل زوجين وهو ينتمي إلى تماثيل ملوك مصر القديمة وملكاتها التي يزيد طولها عن خمسة أمتار من الغرانيت الأسود اللون ويمثل الأول"بطليمس الثامن"، أما الثاني فيمثل ملكة تحمل على رأسها أسطوانة على شكل شمس تحيط بها من الجانبين قرون بقرة"هاتور"وقد صُنِع من الغرانيت الأسود. ومن أجمل التماثيل المعروضة تمثال"أرسنوي"وهو على هيئة"افروديت"آلهة الحب والجمال، جسم إفريقي نحت من الغرانيت الأسود الذي يبرز صلابة المادة ولا تبصر العين منه سوى ما يمكن أن نتخيله من وراء الثوب الراقي الذي يلفّ جسد الملكة بكلّ أناقة... وثمة قِطع أخرى كالأواني الفخارية والأطباق الفضية والبرونزية والمجوهرات والقطع النقدية. ولا تمثّل هذه المعروضات سوى قلة قليلة من الكنوز المكتشَفة التى وافق المجلس الأعلى للآثار أن تعرض خارج مصر، في انتظار عودتها الى المتاحف المصرية. وأثبتت الدراسات التي أجريت على القطع الأثرية التي نقشت عليها خطوط هيروغليفية، أنّ بقايا مدينة طونيس عند المصريين ما هي في الحقيقة إلاّ بقايا مدينة هيراكليون عند اليونانيين. وسمحت القطع التي عثر عليها بإعادة تشكيل المدينة القديمة فبرز ميناؤها والقنوات المائية التي كانت تربطها بالنيل ومعبد أمون الواقع في ساحة المدينة. وتقتضي الإشارة إلى أنّ رئيس"المعهد الأوروبي لدراسات الآثار في أعماق البحار"فرانك غوديو هو الذي كان وراء اكتشاف هذه الكنوز المصرية، وهو رجل فريد يجمع بين دقة التحليل والرؤية والولع بالآثار. ولد غوديو عام 1947 وعمل كموظف سام في إدارة المشاريع التابعة للأمم المتحدة في إفريقيا وآسيا، وساهم كخبير في تأسيس الصندوق السعودي للتنمية. لكنه وأثناء سفر سياحي له إلى مصر فضل الابتعاد عن اختصاصه في عالم المال والأعمال ليتفرّغ إلى إدارة كنوز من نوع آخر عبر هوايته المفضلة وهي الغطس في أعماق البحار، والبحث والتنقيب عن الحضارات والمدن المغمورة والكنوز التي ابتلعتها البحار على أثر الكوارث الطبيعية المختلفة. ويصف علماء الآثار هذه العملية بأنها توازي اكتشاف مدينة بونبيي الإيطالية، بحسب رأي مدير متحف برلين التي احتضنت هذا المعرض في الفترة الممتدة من شهر أيار مايو إلى شهر أيلول سبتمبر الماضي. يقول فرانك غوديو واصفاً عملية انتشال الآثار من أعماق الماء:"قمنا بالتنقيب والبحث مستخدمين آلات الكترونية في المواقع الثلاثة، مع تقنيات معقّدة تستعمل في علم الجيو- فيزياء، منها آلة مقياس مغناطيسي نووي تمّ تطويرها على يد فريق من مختبر الطاقة النووية، وهو ما سمح لمجموعة التنقيب أن تتوصّل إلى رسم خريطة دقيقة لكل هذه المواقع والمدن المغمورة التي ظلت زمناً طويلاً مجرّد أسطورة". ونمّت هذه الآثار بالفعل تاريخاً ثرياً يكشف لنا عن معطيات جديدة منها أن ميناء الإسكندرية كانت تمتد على مساحة تقدّر بستمئة هكتار ومدينة كنوبي تمتدّ على مساحة خمسة وعشرين هكتاراً". وترافق المعرض صور فوتوغرافية ضخمة تبرز عمليات الغوص وطريقة اكتشاف هذه القطع الأثرية وكتب عدة، وأفلام وثائقية تكشف الطرق العلمية المستخدمة في أعمال البحث والمسح الأثري، كذلك أعمال الصيانة للحفاظ على هذه القطع المكتشفة. هذا المعرض الباريسي الذي يتواصل إلى منتصف شهر آذار مارس 2007، يشكّل حدثاً مهماً بين المعارض المقامة في العاصمة الفرنسية، ويعكس الإقبال الكبير عليه الولع الفرنسي بالحضارة الفرعونية وآثارها الفنية.